فصل: حكم الحقّ المحدود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


الموسوعة الفقهية / الجزء الثامن عشر

حقد

التّعريف

1 - الحقد من معانيه‏:‏ الضّغن والانطواء على البغضاء، وإمساك العداوة في القلب، والتّربّص لفرصتها، أو سوء الظّنّ في القلب على الخلائق لأجل العداوة، أو طلب الانتقام‏.‏ وتحقيق معناه‏:‏ أنّ الغضب إذا لزم كظمه لعجز عن التّشفّي في الحال رجع إلى الباطن واحتقن فيه فصار حقداً‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الحسد‏:‏

2 - الحسد أحد ثمار الحقد ومعناه في اللّغة‏:‏ تمنّي الحاسد أن تزول إليه نعمة المحسود، أو أن يُسْلَبَها‏.‏ وهذا معناه في الاصطلاح‏.‏

ويقول ابن جزيّ‏:‏ معناه تألّم القلب بنعمة اللّه تعالى على عباده وتمنّي زوالها عن المنعم عليه‏.‏ فإن تمنّى مثلها لنفسه ولم يتمنّ زوالها عن غيره فذلك غبطة جائزة‏.‏

ب - الغضب‏:‏

3 - الغضب ضدّ الرّضا‏.‏ وحقيقته‏:‏ تغيّر يحصل عند غليان دم القلب ليحصل عنه التّشفّي للصّدر، وهو يثمر الحقد لأنّ الغضب إذا لزم كظمه لعجز عن التّشفّي في الحال رجع إلى الباطن واحتقن فيه فصار حقاً‏.‏

الحكم التكليفي

4 – يختلف حكم الحقد بحسب باعثه، فإن كان لحسد وضغن دون حق فهو مذموم شرعاً، لأنه يثير العداوة والبغضاء والإضرار بالناس لغير ما ذنب جنوه‏.‏

وقد ورد ذمه في الشرع فمن ذلك قوله تعالى في ذم المنافقين الذين ساءهم ائتلاف المؤمنين واجتماع كلمتهم بحيث أصبح أعداؤهم عاجزين عن التشفي منهم‏:‏ ‏{‏وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ‏}‏‏.‏ فقد ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أن هؤلاء المنافقين يظهرون الإيمان عند ملاقاتهم للمؤمنين، وإذا خلا بعضهم إلى بعض فإنهم يعضون أطراف أصابعهم لأجل الغضب والحنق، لما يرون من ائتلاف المؤمنين واجتماع كلمتهم، ونصرة الله تعالى إياهم، بحيث عجز أعداؤهم عن أن يجدوا سبيلاً إلى التشفي واضطروا إلى مداراتهم، وعض الأنامل عادة النادم الأسيف العاجز‏.‏

وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذم الحقد ونفاه عن المؤمن في قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «المؤمن ليس بحقود»‏.‏

هذا ومما ورد في ذم الحقد والتحذير منه ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ثلاث من لم يكن فيه واحدة منهن فإنّ الله يغفر له ماسوى ذلك لمن يشاء من مات لا يشرك بالله شيئاً، ولم يكن ساحراً يتبع السحرة، ولم يحقد على أخيه»‏.‏ «وعن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ قام رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل فصلى فأطال السجود حتى ظننت أنّه قد قبض فلما رأيت ذلك قمت حتى حركت إبهامه فتحرك فرجع فلما رفع رأسه من السجود وفرغ من صلاته قال‏:‏ - يا عائشة أو يا حميراء - أظننت أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قد خاس بك‏؟‏ قلت لا والله يا رسول الله ولكني ظننت أنّك قبضت لطول سجودك فقال‏:‏ أتدرين أي ليلة هذه‏؟‏ قلت الله ورسوله أعلم‏.‏ قال هذه ليلة النصف من شعبان إنّ الله عز وجل يطلع على عباده في ليلة النصف من شعبان فيغفر للمستغفرين، ويرحم المسترحمين ويؤخر أهل الحقد كما هم»‏.‏

5 - وأيضاً فإنّ الحقد كما ذكر المناوي من البلايا التي ابتلي بها المناظرون قال الغزالي‏:‏ لا يكاد المناظر ينفك عنه، إذ لا تكاد ترى مناظراً يقدر على أن لا يضمر حقداً على من يحرك رأسه عند كلام خصمه ويتوقف في كلامه فلا يقابله بحسن الإصغاء، بل يضمر الحقد ويرتبه في النفس، وغاية تماسكه الإخفاء بالنفاق‏.‏

6 - ومما يذهب الحقد الإهداء والمصافحة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «تهادوا فإنّ الهدية تذهب وحر الصدر‏.‏ وفي رواية‏:‏ «تهادوا تحابوا»‏.‏

7 - أما إن كان الحقد على ظالم لا يمكن دفع ظلمه أو استيفاء الحق منه، أو على كافر يؤذي المسلمين ولا يمكنهم دفع أذاه، فإنّ ذلك غير مذموم شرعاً، ثمّ إذا تمكن ممن ظلمه، فإمّا أن يعفو عنه فذلك من الإحسان والعفو عمن ظلمه عند المقدرة‏.‏

وإمّا أن يأخذ حقه منه فلا حرج فيه لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ، إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ‏}‏ الآية، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ، وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ‏}‏‏.‏

حقّ

التّعريف

1 - الحقّ في اللّغة خلاف الباطل، وهو مصدر حقّ الشّيء يحقّ إذا ثبت ووجب‏.‏

وجاء في القاموس أنّ الحقّ يطلق على المال والملك والموجود الثّابت‏.‏ ومعنى حقّ الأمر وجب ووقع بلا شكّ، وعرّفه الجرجانيّ بأنّه الثّابت الّذي لا يسوغ إنكاره‏.‏

والحقّ اسم من أسماء اللّه تعالى، وقيل من صفاته‏.‏

ومن معاني الحقّ في اللّغة‏:‏ النّصيب، والواجب، واليقين، وحقوق العقار مرافقه‏.‏

والحقّ في الاصطلاح يأتي بمعنيين‏:‏ الأوّل‏:‏ هو الحكم المطابق للواقع، ويطلق على الأقوال والعقائد والأديان والمذاهب باعتبار اشتمالها على ذلك ويقابله الباطل‏.‏

والآخر‏:‏ أن يكون بمعنى الواجب الثّابت‏.‏ وهو قسمان‏:‏ حقّ اللّه وحقّ العباد‏.‏

فأمّا حقّ اللّه، فقد عرّفه التّفتازانيّ‏:‏ بأنّه ما يتعلّق به النّفع العامّ للعالم من غير اختصاص بأحد، فينسب إلى اللّه تعالى، لعظم خطره، وشمول نفعه، أو كما قال ابن القيّم‏:‏ حقّ اللّه ما لا مدخل للصّلح فيه، كالحدود والزّكوات والكفّارات وغيرها‏.‏

وأمّا حقّ العبد فهو ما يتعلّق به مصلحة خاصّة له، كحرمة ماله، أو كما قال ابن القيّم‏:‏ وأمّا حقوق العباد، فهي الّتي تقبل الصّلح والإسقاط والمعاوضة عليها‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الحكم‏:‏

2 - الحكم هو خطاب اللّه المتعلّق بأفعال المكلّفين بالاقتضاء، أو التّخيير، أو الوضع، والحقّ أثر للحكم لأنّ الحقّ يثبت بالشّرع‏.‏ فبين الحقّ والحكم علاقة المسبّب بالسّبب‏.‏

الحقّ عند علماء الأصول

3 - المراد بالحقّ عند علماء أصول الفقه‏:‏

اتّجه علماء الأصول الّذين ذكروا الحقّ اتّجاهين‏:‏

الاتّجاه الأوّل‏:‏ أنّ الحقّ هو الحكم، وهو خطاب اللّه تعالى المتعلّق بأفعال المكلّفين بالاقتضاء أو التّخيير أو الوضع‏.‏

قال فخر الإسلام البزدويّ‏:‏ أمّا الأحكام فأنواع‏:‏ الأوّل‏:‏ حقوق اللّه عزّ وجلّ خالصة‏.‏ والثّاني‏:‏ حقوق العباد خالصة‏.‏ والثّالث‏:‏ ما اجتمع فيه الحقّان، وحقّ اللّه تعالى غالب‏.‏ والرّابع‏:‏ ما اجتمعا معًا وحقّ العبد فيه غالب‏.‏ ثمّ قال علاء الدّين البخاريّ في شرحه‏:‏ قال أبو القاسم - رحمه الله - في أصول الفقه‏:‏ الحقّ‏:‏ الموجود من كلّ وجه الّذي لا ريب في وجوده، ومنه‏:‏ «السّحر حقّ، والعين حقّ»، أي موجود بأثره، وهذا الدّين حقّ، أي موجود صورةً ومعنًى، ولفلان حقّ في ذمّة فلان، أي شيء موجود من كلّ وجه‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ حقّ اللّه تعالى‏:‏ ما يتعلّق به النّفع العامّ للعالم، فلا يختصّ به أحد‏.‏ وينسب إلى اللّه تعالى تعظيماً، أو لئلاّ يختصّ به أحد من الجبابرة، مثل‏:‏ حرمة البيت الّذي يتعلّق به مصلحة العالم، باتّخاذه قبلةً لصلواتهم، ومثابةً لهم‏.‏ وكحرمة الزّنى لما يتعلّق بها من عموم النّفع في سلامة الأنساب، وصيانة الفراش، وإنّما الحقّ ينسب إليه تعالى تعظيمًا، لأنّه يتعالى عن أن ينتفع بشيء، فلا يجوز أن يكون شيء حقًّا له بهذا الوجه‏.‏ ولا يجوز أن يكون حقًّا له بجهة التّخليق، لأنّ الكلّ سواء في ذلك‏.‏ بل الإضافة إليه لتشريف ما عظم خطره، وقوي نفعه، وشاع فضله، بأن ينتفع به النّاس كافّةً‏.‏

وحقّ العبد‏:‏ ما يتعلّق به مصلحة خاصّة له، مثل‏:‏ حرمة ماله، فإنّها حقّ العبد، ليتعلّق صيانة ماله بها‏.‏ فلهذا يباح مال الغير بإباحة المالك، ولا يباح الزّنى بإباحة المرأة، ولا بإباحة أهلها‏.‏

وقال صاحب تيسير التّحرير‏:‏ ويرد عليه الصّلاة والصّوم والحجّ، والحقّ أن يقال‏:‏ يعني بحقّ اللّه ما يكون المستحقّ هو اللّه، وبحقّ العبد ما يكون المستحقّ هو العبد‏.‏

وقال الكنديّ‏:‏ الحقّ‏:‏ الموجود، والمراد به هنا‏:‏ حكم يثبت‏.‏

وقال القرافيّ‏:‏ حقّ اللّه‏:‏ أمره ونهيه‏.‏ وحقّ العبد‏:‏ مصالحه‏.‏ والتّكاليف على ثلاثة أقسام‏:‏ الأوّل‏:‏ حقّ اللّه تعالى فقط، كالإيمان وتحريم الكفر‏.‏

والثّاني‏:‏ حقّ العباد فقط، كالدّيون والأثمان‏.‏ والثّالث‏:‏ قسم اختلف فيه، هل يغلب فيه حقّ اللّه، أو يغلب فيه حقّ العبد، كحدّ القذف، ونعني بحقّ العبد المحض‏:‏ أنّه لو أسقطه لسقط، وإلاّ فما من حقّ للعبد إلاّ وفيه حقّ للّه تعالى، وهو أمره بإيصال ذلك الحقّ إلى مستحقّه‏.‏ ثمّ قال‏:‏ ما تقدّم من أنّ حقّ اللّه تعالى أمره ونهيه، مشكل بما في الحديث الصّحيح عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «فإنّ حقّ اللّه على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً» فيقتضي أنّ حقّ اللّه تعالى على العباد نفس الفعل، لا الأمر به، وهو خلاف ما نقلته قبل هذا‏.‏ والظّاهر أنّ الحديث مؤوّل، وأنّه من باب إطلاق الأمر على متعلّقه الّذي هو الفعل، فظاهره معارض لما حرّره العلماء من حقّ اللّه تعالى، ولا يفهم من قولنا‏:‏ الصّلاة حقّ اللّه تعالى إلاّ أمره بها، إذ لو فرضنا أنّه غير مأمور بها لم يصدق أنّها حقّ اللّه تعالى، فنجزم بأنّ الحقّ هو نفس الأمر، لا الفعل، وما وقع من ذلك مؤوّل‏.‏

الاتّجاه الثّاني‏:‏

4 - الحقّ هو الفعل‏:‏ ذكر سعد التّفتازانيّ أنّ الحقّ هو الفعل فقال‏:‏ المحكوم به - وهو ما يسمّيه بعضهم المحكوم فيه - هو الفعل الّذي تعلّق به خطاب الشّارع‏.‏ فلا بدّ من تحقّقه حسًّا، أي من وجوده في الواقع، بحيث يدرك بالحسّ أو بالعقل، إذ الخطاب لا يتعلّق بما لا يكون له وجود أصلاً‏.‏ وأكّد صاحب تهذيب الفروق أنّ الحقّ هو الفعل، فقال‏:‏ حقّ اللّه تعالى‏:‏ هو متعلّق أمره ونهيه، الّذي هو عين عبادته، لا نفس أمره ونهيه المتعلّق بها، لأمرين‏:‏ الأوّل‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏}‏، وقول الرّسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ «حقّ اللّه على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً»‏.‏

الثّاني‏:‏ أنّ الحقّ معناه‏:‏ اللّازم له على عباده، واللّازم على العباد لا بدّ أن يكون مكتسباً لهم، وكيف يصحّ أن يتعلّق الكسب بأمره ونهيه، وهو كلامه، وكلامه صفته القديمة‏.‏ وحقّ العبد ثلاثة أقسام‏:‏ الأوّل‏:‏ حقّه على اللّه، وهو ملزوم عبادته إيّاه بوعده، وهو أن يدخله الجنّة، ويخلّصه من النّار‏.‏

والثّاني‏:‏ حقّه في الجملة، وهو الأمر الّذي تستقيم به أولاه وأخراه من مصالحه‏.‏

والثّالث‏:‏ حقّه على غيره من العباد، وهو ما له عليهم من الذّمم والمظالم‏.‏

وفي هذا تأييد لابن الشّاطّ من المالكيّة حيث قال‏:‏ الحقّ والصّواب ما اقتضاه ظاهر الحديث، من أنّ الحقّ هو عين العبادة‏.‏ لا الأمر المتعلّق بها‏.‏

5- وقسّم ابن رجب حقوق العباد إلى خمسة أقسام‏:‏

أ - حقّ الملك‏.‏

ب - حقّ التّملّك كحقّ الوالد في مال ولده وحقّ الشّفيع في الشّفعة‏.‏

ج - حقّ الانتفاع كوضع الجار خشبةً على جدار جاره إذا لم يضرّه‏.‏

د - حقّ الاختصاص وهو عبارة عمّا يختصّ مستحقّه بالانتفاع به ولا يملك أحد مزاحمته فيه، وهو غير قابل للشّمول والمعاوضات مثل مرافق الأسواق، والجلوس في المساجد‏.‏

هـ - حقّ التّعلّق لاستيفاء الحقّ مثل تعلّق حقّ المرتهن بالرّهن‏.‏

المراد بالحقّ عند الفقهاء

6 - المراد بالحقّ غالبًا عند الفقهاء‏:‏ ما يستحقّه الرّجل‏.‏

وإطلاقات الفقهاء للحقّ كانت مختلفةً ومتعدّدةً، منها‏:‏

1 - إطلاق الحقّ على ما يشمل الحقوق الماليّة وغير الماليّة، مثل قولهم‏:‏ من باع بثمن حالّ ثمّ أجّله صحّ، لأنّه حقّه، ألا ترى أنّه يملك إسقاطه، فيملك تأجيله‏.‏

2 - الالتزامات الّتي تترتّب على العقد - غير حكمه - وتتّصل بتنفيذ أحكامه‏.‏

مثل‏:‏ تسليم الثّمن الحالّ أوّلاً ثمّ تسليم المبيع، وذلك في قولهم‏:‏ ومن باع سلعةً بثمن سلّمه أوّلاً، تحقيقًا للمساواة بين المتعاقدين، لأنّ المبيع يتعيّن بالتّعيين، والثّمن لا يتعيّن إلاّ بالقبض، فلهذا اشترط تسليمه إلاّ أن يكون الثّمن مؤجّلاً، لأنّه أسقط حقّه بالتّأجيل، فلا يسقط حقّ الآخر‏.‏

3 - الأرزاق الّتي تمنح للقضاة والفقهاء وغيرهم من بيت مال المسلمين، مثل قول ابن نجيم‏:‏ من له حقّ في ديوان الخراج كالمقاتلة والعلماء وطلبتهم والمفتين والفقهاء يفرض لأولادهم تبعًا، ولا يسقط بموت الأصل ترغيباً‏.‏

4 - مرافق العقار، مثل‏:‏ حقّ الطّريق، وحقّ المسيل، وحقّ الشّرب‏.‏

5- الحقوق المجرّدة، وهي المباحات، مثل‏:‏ حقّ التّملّك، وحقّ الخيار للبائع أو للمشتري، وحقّ الطّلاق للزّوج‏.‏

مصدر الحقّ

7 - مصدر الحقّ هو اللّه تعالى لتنظيم حياة الخلق، حتّى يكونوا سعداء في الدّنيا والآخرة‏.‏ وكان يمكن ألاّ يجعل اللّه للعبد حقّاً أصلاً، ولكنّه تفضّل على عباده فجعل للشّخص حقوقاً تؤدّى له، وكلّفه بأداء حقوق للّه تعالى وللآخرين، ثمّ أعلمه وبلّغه ما له من حقوق، وما عليه من واجبات عن طريق الشّرائع السّماويّة الّتي ختمت بالشّريعة الإسلاميّة فكانت ناسخةً لما قبلها وعامّةً لجميع الخلق‏.‏

فما أثبتته الشّريعة الإسلاميّة حقّاً فهو حقّ، وما عداه فليس بحقّ، فالحاكم هو اللّه تعالى قال اللّه عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏إن الحُكْمُ إلاّ لِلَّهِ‏}‏ وعلى ذلك إجماع المسلمين، والحقوق هي أثر خطاب الشّرع على ما تقدّم، قال الشّاطبيّ‏:‏ إنّ كلّ حكم شرعيّ ليس بخال عن حقّ اللّه تعالى، وهو جهة التّعبّد، فإنّ حقّ اللّه على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وعبادته امتثال أوامره، واجتناب نواهيه بإطلاق‏.‏

فإن جاء ما ظاهره أنّه حقّ للعبد مجرّداً فليس كذلك بإطلاق، بل جاء على تغليب حقّ العبد في الأحكام الدّنيويّة‏.‏ كما أنّ كلّ حكم شرعيّ ففيه حقّ للعباد، إمّا عاجلاً وإمّا آجلاً، بناءً على أنّ الشّريعة إنّما وضعت لمصالح العباد، روي عن معاذ - رضي الله عنه - قال‏:‏ «فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا معاذ، هل تدري حقّ اللّه على عباده، وما حقّ العباد على اللّه‏؟‏ قلت‏:‏ اللّه ورسوله أعلم، قال‏:‏ فإنّ حقّ اللّه على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحقّ العباد على اللّه ألاّ يعذّب من لا يشرك به شيئاً»‏.‏

ثمّ ذكر الشّاطبيّ أنّ كلّ الحقوق حتّى حقّ العبد هو حقّ للّه وحده بادئ ذي بدء، فقال‏:‏ كلّ تكليف حقّ اللّه، فإنّ ما هو للّه فهو للّه، وما كان للعبد فراجع إلى اللّه من وجهين‏:‏

أ - من جهة حقّ اللّه فيه‏.‏

ب - ومن جهة كون حقّ العبد من حقوق اللّه، إذ كان للّه ألاّ يجعل للعبد حقّاً أصلاً، إذ الأشياء كلّها بالنّسبة إلى وضعها الأوّل متساوية، لا قضاء للعقل فيها بحسن ولا قبح، فإذن كون المصلحة مصلحةً هو من قبل الشّارع، بحيث يصدّقه العقل، وتطمئنّ إليه النّفس‏.‏

أركان الحقّ

هي‏:‏

8 - أ - صاحب الحقّ، وهو في حقوق العباد الشّخص الّذي ثبت له الحقّ، كالزّوج باعتباره صاحب حقّ على الزّوجة بالنّسبة لطاعته‏.‏

أمّا في حقوق اللّه تعالى كالصّلاة والصّوم فإنّ صاحب الحقّ فيها هو اللّه تعالى وحده ولا يشاركه في هذا الحقّ أحد غيره، ولذا لا يملك أحد إسقاط حقّه تعالى‏.‏

ب - من عليه الحقّ، وهو الشّخص المكلّف بالأداء، فإذا كان صاحب الحقّ هو اللّه تعالى، فيكون المكلّف بأداء الحقّ هو من عليه هذا الحقّ، سواء أكان فرداً كما في فرض العين، أم جماعةً كما في فرض الكفاية مثلاً‏.‏

ج - محلّ الحقّ أي الشّيء المستحقّ، كالفرائض الخمس في حقّ اللّه تعالى‏.‏ والمال حقيقة، كالقدر المقبوض من المهر، وهو معجّل الصّداق أو حكماً، كالقدر المؤخّر من المهر لأقرب الأجلين، وكذا سائر الدّيون‏.‏ والانتفاع، كحلّ الاستمتاع بعقد الزّواج‏.‏ والعمل، مثل‏:‏ ما تقوم به الزّوجة من أعمال، وتمكين الزّوج من نفسها‏.‏ والامتناع عن عمل، مثل‏:‏ عدم فعل الزّوجة ما يغضب اللّه أو يغضب الزّوج‏.‏

ويشترط في الشّيء المستحقّ لصاحب الحقّ أن يكون غير ممنوع شرعاً، لأنّ الأصل في الأشياء الإباحة شرعاً إلاّ ما نهى الشّرع عنه، فإذا كان الشّيء غير مشروع فلا يكون حقّاً، وليس لصاحب الحقّ المطالبة بما هو غير مشروع، مثل‏:‏ تمكين الزّوج من الاستمتاع بزوجته فإنّه حقّ مشروع، ولكنّه ليس مشروعاً دائماً في كلّ وقت، لأنّه ليس مشروعًا في حال الحيض، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ‏}‏‏.‏

أقسام الحقّ

9 - يقسّم الحقّ إلى تقسيمات عدّة باعتبارات مختلفة‏.‏

باعتبار اللّزوم وعدمه، باعتبار عموم النّفع وخصوصه، وباعتبار وجود حقّ العبد وعدمه، باعتبار إسقاط العبد للحقّ وعدم قدرته على إسقاط الحقّ، وباعتبار إسقاط الإسلام للحقّ وعدم إسقاطه له، وباعتبار معقوليّة المعنى وعدم معقوليّته، وباعتبار عدم خلوّ كلّ حقّ من حقّ للّه تعالى وحقّ للعبد، وباعتبار العبادات والعادات، وباعتبار الحقّ التّامّ والحقّ المخفّف، وباعتبار الحقّ المحدّد وغير المحدّد، وباعتبار الحقّ المعيّن والمخيّر، وباعتبار الحقّ المطلق والمقيّد، وباعتبار الحقّ العينيّ والكفائيّ، وباعتبار ما يورث من الحقوق وما لا يورث، وباعتبار الحقّ الماليّ وغير الماليّ، وباعتبار الحقّ الدّيانيّ والقضائيّ، أو الدّنيويّ والأخرويّ، وغير ذلك‏.‏

ومرجع هذه التّقسيمات، إمّا بالنّظر إلى صاحب الحقّ، أو بالنّظر إلى من عليه الحقّ، أو بالنّظر إلى الشّيء المستحقّ، أو بالنّظر إلى ما يتعلّق به الحقّ‏.‏

أوّلاً‏:‏ باعتبار اللّزوم وعدمه

10 - يقسّم الحقّ في الشّريعة الإسلاميّة إلى قسمين‏:‏ لازم، وجائز بمعنى أنّه غير لازم‏.‏ النّوع الأوّل‏:‏ الحقّ اللّازم، وهو الحقّ الّذي يقرّره الشّرع على جهة الحتم، فإذا قرّره الشّرع أوجد في مقابله واجباً، وقرّر هذا الواجب على الآخرين في نفس الوقت، فالحقّ والواجب في المقابل قد وجدا في وقت واحد، دون تخلّف أحدهما عن الآخر، فهما متلازمان وإن اختلف معنى كلّ واحد منهما عن الآخر، كحقّ الملك فإنّه يجب، فمثلاً‏:‏ حقّ الحياة حقّ لكلّ شخص، ويجب على الآخرين - أفراداً ومجتمعاً - أن يحترموا هذا الحقّ، ولا يجوز لهم الاعتداء عليه، أو حرمانه منه، وكذلك حقّ الحرّيّة فلا يستعبد الحرّ، وكذلك حقّ الملك وغيره من الحقوق‏.‏

وإذا كان لأصحاب هذه الحقوق حقّ، ويجب على الآخرين عدم الاعتداء عليه، فإنّ لهؤلاء الآخرين حقًّا في عدم الإضرار بهم عند استعمال هذه الحقوق والتّمتّع بها‏.‏

النّوع الثّاني‏:‏ الحقّ الجائز، وهو الحقّ الّذي يقرّره الشّرع من غير حتم، وإنّما يقرّره على جهة النّدب أو الإباحة‏.‏ مثاله أمر المحتسب بصلاة العيد، قال الماورديّ‏:‏ هل يكون الأمر بها من الحقوق اللّازمة أو من الحقوق الجائزة‏؟‏ على وجهين من اختلاف أصحاب الشّافعيّ فيها، هل هي مسنونة أو من فروض الكفاية، فإن قيل‏:‏ إنّها مسنونة كان الأمر بها ندباً، وإن قيل إنّها من فروض الكفاية كان الأمر بها حتماً‏.‏

ثانياً‏:‏ تقسيم الحقوق باعتبار عموم النّفع وخصوصه

11- قسّم فقهاء الحنفيّة الحقوق باعتبار عموم النّفع وخصوصه إلى أربعة أقسام‏:‏

حقوق اللّه الخالصة، حقوق العباد الخالصة، ما اجتمع فيه حقّ اللّه وحقّ العبد لكن حقّ اللّه غالب، وما اجتمع فيه الحقّان لكن حقّ العبد غالب‏.‏

القسم الأوّل‏:‏ حقوق اللّه تعالى الخالصة

12 - حقّ اللّه تعالى‏:‏ ما يتعلّق به النّفع العامّ للعالم، فلا يختصّ به أحد، وإنّما هو عائد على مجموع الأفراد والجماعات، وإنّما ينسب هذا الحقّ إلى اللّه تعالى تعظيماً، أو لئلاّ يختصّ به أحد من الجبابرة، كحرمة البيت الحرام الّذي يتعلّق به مصلحة العالم، وذلك باتّخاذه قبلةً لصلواتهم، ومثابةً لهم، وكحرمة الزّنى لما يتعلّق بها من عموم النّفع في سلامة الأنساب، وصيانة الفراش‏.‏ وإنّما ينسب الحقّ إلى اللّه تعالى تعظيماً، لأنّ اللّه عزّ وجلّ يتعالى عن أن ينتفع بشيء، فلا يجوز أن يكون شيء حقّاً له بهذا الوجه، لأنّه باعتبار التّضرّر أو الانتفاع هو متعال عن الكلّ‏.‏

ولا يجوز أن يكون حقّاً له بجهة التّخليق، لأنّ الكلّ سواء في ذلك، بل الإضافة إليه لتشريف ما عظم خطره، وقوي نفعه، وشاع فضله، بأن ينتفع به النّاس كافّةً، فباعتبار التّخليق الكلّ سواء في الإضافة إلى اللّه تعالى، قال عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ‏}‏‏.‏

أنواع حقوق اللّه الخالصة

13 - حقوق اللّه تعالى الخالصة عند الحنفيّة أيضاً ثمانية أنواع‏:‏

أ - عبادة خالصة، مثل‏:‏ الإيمان، والصّلاة، وصوم رمضان، وهي واجبة على المكلّف البالغ العاقل‏.‏ وكذلك زكاة المال عند الحنفيّة - عبادة خالصة، لأنّها قرنت بالصّلاة والصّوم وعدّت من أركان الإسلام، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «بني الإسلام على خمس‏:‏ شهادة أن لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمّداً رسول اللّه، وإقام الصّلاة، وإيتاء الزّكاة، والحجّ، وصوم رمضان»‏.‏

ب - عبادة فيها معنى المئونة، مثل‏:‏ صدقة الفطر، وكذلك زكاة المال - عند جمهور الفقهاء‏.‏ والمئونة هي الوظيفة الّتي تعود بالنّفع العامّ على الفقراء والمساكين وغيرهم من المستحقّين في قوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ‏}‏‏.‏

وإنّما كانت صدقة الفطر فيها معنى المئونة، لأنّها وجبت على الإنسان بسبب نفسه وبسبب غيره، وهم الأشخاص الّذين يمونهم ويلي عليهم‏.‏

ولكونها وجبت على المخرج بسبب الغير لم تكن عبادةً خالصةً، وإنّما كان فيها معنى المئونة، لأنّ العبادة الخالصة لا تجب بسبب الغير‏.‏

أمّا زكاة المال - عند جمهور الفقهاء - ففيها معنى المئونة، لأنّها وجبت على الشّخص بسبب خارج عن ذاته، وهو ملكيّته للمال المستوفي لشروط الزّكاة، وشكرًا للّه على بقائه زائدًا عن حاجته، وعدم هلاكه‏.‏ كما أنّ كلّاً من زكاة المال وصدقة الفطر مساعدة للفقراء والمساكين وغيرهم من مصارف الزّكاة‏.‏

ج - مئونة فيها معنى العبادة، مثل‏:‏ زكاة الزّروع والثّمار المقدّرة بالعشر أو نصف العشر على الزّارع حسب شروطها‏.‏ وإنّما كانت مئونةً، لأنّها وظيفة مقدّرة شرعاً على نماء الأرض من الزّروع والثّمار، وتجب بسبب ما يخرج منها، اعترافاً بفضل اللّه تعالى، لأنّ اللّه هو المنبت والرّازق، حيث قال عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا‏}‏‏.‏

وإنّما كان فيها معنى العبادة لأمور‏:‏ منها‏:‏

1 - أنّها وجبت ابتداءً على المسلم فقط، ولم تجب ابتداءً على غير المسلم من الزّرّاع، والعبادة لا يكلّف بها غير المسلم‏.‏

2 - أنّها تعطى لفئات معيّنة ممّن تستحقّ الأخذ من الصّدقات، ولا يجوز للسّلطان أن يعطيها للأغنياء‏.‏

د - مئونة فيها معنى العقوبة، مثل‏:‏ الخراج على الأرض الزّراعيّة‏.‏

وهو الوظيفة المبيّنة الموضوعة على الأرض بسبب التّمكّن من زراعة الأرض، وبقائها تحت أيدي أصحابها من غير المسلمين‏.‏

أمّا المئونة فلتعلّق بقاء الأرض لأهل الإسلام بالمقاتلين الّذين هم مصارف الخراج‏.‏ والعقوبة للانقطاع بالزّراعة عند الجهاد، لأنّ الخراج يتعلّق بالأرض بصفة التّمكّن من الزّراعة، والاشتغال بها عمارةً للدّنيا، وإعراض عن الجهاد‏.‏ وهو سبب الذّلّ شرعاً، فكان الخراج في الأصل صغاراً‏.‏

هـ – حقوق دائرة بين العبادة والعقوبة وهي الكفّارات، مثل‏:‏ كفّارة الظّهار، وكفّارة الفطر في رمضان عمداً، وكفّارة الحنث في اليمين، والكفّارة عقوبة لأنّها وجبت جزاءً على الفعل المحظور شرعًا، فالعقوبة في الكفّارة من جهة الوجوب‏.‏

وأمّا العبادة في الكفّارات فهي من جهة الأداء، لأنّها تؤدّى ببعض أنواع العبادات، مثل‏:‏ الصّوم والإطعام والعتق‏.‏

أمّا كفّارة الفطر في رمضان عمداً فإنّ جهة العقوبة فيها غالبة، لأنّه ليس في الإفطار عمداً شبهة الإباحة بوجه ما، ولمّا كانت جناية المفطر عمداً كاملةً، كان المفروض أن يترتّب على ذلك عقوبة محضة، ولكنّه عدل عن ذلك لقصور الجناية من حيث إنّ المفطر ليس مبطلًا لحقّ اللّه الثّابت، وإنّما هو مانع من تسليم الحقّ إلى مستحقّه‏.‏

ولذلك لم يكن الزّجر عقوبةً محضةً، لأنّ تقصيره كان لضعفه وعدم قدرته على أداء ما وجب عليه، وذلك مع التّسليم بخطئه وقبح فعله‏.‏ أمّا بقيّة الكفّارات فإنّ العقوبة فيها تبع‏.‏

و - عقوبة خالصة وهي الحدود، مثل‏:‏ حدّ السّرقة، وحدّ شرب الخمر، وحدّ الزّنى‏.‏

ز - عقوبة قاصرة وهي حرمان القاتل من الإرث، إذا قتل الوارث البالغ مورثه‏.‏

وإنّما كانت قاصرةً لأنّه لم يلحق القاتل ألم في بدنه ولا نقصان في ماله، بل هو مجرّد منع لثبوت ملكه في التّركة، فهي ليست عقوبةً كاملةً أصليّةً، وإنّما هي عقوبة إضافيّة للعقوبة الأصليّة للقتل سواء أكان عمدًا أم غير عمد، لأنّه قصد حرمان هذا القاتل من تحقيق هدفه، وهو تعجّل الميراث، ولذلك حرم من الميراث الّذي يأتي إليه عن طريق المقتول، لأنّ من استعجل الشّيء قبل أوانه عوقب بحرمانه‏.‏

ح - حقّ قائم بنفسه ثبت للّه تعالى ابتداءً، مثل‏:‏ الخمس في الغنائم، قال عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏‏.‏

ومثل‏:‏ خمس ما يستخرج من الأرض والبحار من معادن ونفط وفحم حجريّ وغير ذلك‏.‏ وإنّما كان هذا الحقّ قائماً بنفسه، لأنّه لم يتعلّق بذمّة شخص، ولم يدخل في ملك شخص ثمّ أخرجه زكاةً أو صدقةً تبرّعاً، وذلك لأنّ الجهاد والقتال في سبيل اللّه حقّ للّه تعالى، لأنّه إعلاء لكلمة اللّه، ونشر لدينه، وذلك بإزالة العوائق أيًّا كانت أمام الدّعوة الإسلاميّة، ولمّا كان النّاصر للمسلمين هو اللّه تعالى، حيث قال عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ‏}‏، فالغنائم كلّها حقّ للّه تعالى، ولكنّ اللّه هو الّذي جعل للمحاربين حقًّا في الغنيمة، حيث منحهم أربعة أخماس الغنيمة، وبقي الخمس على ملك اللّه، حقًّا له، فيكون طاهراً في ذاته، لأنّه لم يكن أداةً للتّطهير والتّزكية، فلا يحمل في طيّاته دنساً أو وزراً، ولذلك جاز للرّسول صلى الله عليه وسلم وآله أن يأكلوا من خمس الغنيمة، بخلاف أموال الزّكاة والصّدقة فلا تحلّ لهم‏.‏

ولذلك يجوز للحاكم إعطاء المعدن والنّفط للّذي وجده واستخرجه من الأرض إذا كان محتاجاً ومستحقّاً للصّدقة كما أنّه يجوز إعطاء الخمس لغير الفقراء والمساكين، لأنّه ليس صدقةً ولا عبادةً ولا مئونةً ولا عقوبةً، لأنّه لم يخرج من أموال النّاس حتّى يأخذ صفةً من هذه الصّفات، وإنّما هو باق على حكم ملك اللّه تعالى ظاهرًا وباطناً، حقيقةً وحكماً‏.‏

القسم الثّاني‏:‏ حقّ العبد الخالص

14 - حقّ العبد الخالص هو‏:‏ ما كان نفعه مختصّاً بشخص معيّن، مثل‏:‏ حقوق الأشخاص الماليّة أو المتعلّقة بالمال، كحقّ الدّية، وحقّ استيفاء الدّين، وحقّ استرداد المغصوب إن كان موجودًا، أو حقّ استرداد مثله أو قيمته إن كان المغصوب هالكاً‏.‏

فتحريم مال الشّخص على غيره حقّ لهذا الشّخص‏.‏ حتّى يتمكّن من حماية ماله وصيانته، ولهذا يملك أن يحلّ ماله لغيره بالإباحة والتّمليك‏.‏

القسم الثّالث‏:‏ ما اجتمع فيه حقّ اللّه وحقّ العبد ولكن حقّ اللّه غالب

15 - مثاله‏:‏ حدّ القذف بعد تبليغ المقذوف، وثبوت الحدّ على القاذف‏.‏

فللعبد في حدّ القذف حقّ، لأنّ المقذوف بالزّنى قد اتّهم في عرضه ودينه، وللّه فيه حقّ، لأنّ القذف بالزّنى مساس بالأعراض علناً، ممّا يؤدّي إلى شيوع الفاحشة، وانتشار الألفاظ المخلّة بالآداب‏.‏ وغلب حقّ اللّه تعالى لكي يتحتّم إقامة الحدّ على القاذف، لاعتدائه على المجتمع وعلى المقذوف، ولكي يمنع المقذوف من التّنازل عن حقّه، أو الصّلح عليه، أو تولّي تنفيذ الحدّ بنفسه، ويترتّب على تغليب حقّ اللّه ما يأتي‏:‏

أ - تداخل العقوبة، بمعنى أنّه لو قذف جماعةً بكلمة أو كلمات متفرّقة، لا يقام عليه إلاّ حدّ واحد فقط‏.‏

ب - لا يجري فيه الإرث‏.‏

ج - لا يسقط بعفو المقذوف‏.‏

د - تتنصّف العقوبة بالرّقّ،قال اللّه تعالى‏:‏‏{‏فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ‏}‏‏.‏

هـ - يفوّض تنفيذ الحدّ للإمام‏.‏

القسم الرّابع‏:‏ ما اجتمع فيه حقّ اللّه وحقّ العبد لكن حقّ العبد غالب‏:‏

16 - مثل‏:‏ القصاص من القاتل عمداً عدواناً‏.‏ فللّه فيه حقّ، لأنّه اعتداء على المجتمع، واعتداء على مخلوق اللّه وعبده الّذي حرّم دمه إلاّ بحقّ، وللّه في نفس العبد حقّ الاستعباد، حيث قال عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏}‏

وللعبد في القصاص حقّ، لأنّ القتل العمد اعتداء على شخصه، لأنّ للعبد المقتول في نفسه حقّ الحياة، وحقّ الاستمتاع بها فحرمه القاتل من حقّه، وهو اعتداء على أولياء المقتول، لأنّه حرمهم من رعاية مورثهم، واستمتاعهم بحياته‏.‏ فكان القتل العمد اعتداءً على حقّ اللّه وحقّ العبد، ولذلك كان في شرعيّة القصاص إبقاء للحقّين، وإخلاء للعالم من الفساد‏.‏ تصديقًا لقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏‏.‏

وغلب حقّ العبد، لأنّ وليّ المقتول يملك رفع دعوى القصاص أو عدم رفعها، وبعد المطالبة بالقصاص والحكم على الجاني القاتل يملك التّنازل عنه والصّلح على مال أو الصّلح بغير عوض، كما يملك تنفيذ حكم القصاص على القاتل إن أراد ذلك وكان يتقن التّنفيذ، ولا يجوز ذلك إلاّ بإذن الحاكم، لئلاّ يفتات عليه،فلو فعل وقع القصاص موقعه واستحقّ التّعزير‏.‏

تقسيم الحقوق باعتبار وجود حقّ للعبد

17 - قسّم فقهاء المالكيّة الحقوق باعتبار وجود حقّ للعبد وعدم وجود حقّ له إلى قسمين رئيسيّين، وهما‏:‏

1 - حقّ اللّه فقط، مثل‏:‏ الإيمان، وتحريم الكفر‏.‏

2 - حقّ العبد‏.‏ ثمّ قسّموا حقّ العبد إلى ثلاثة أقسام‏:‏

الأوّل‏:‏ حقّ العبد على اللّه، وملزوم عبادته إيّاه، وهو أن يدخله الجنّة،ويخلّصه من النّار‏.‏ الثّاني‏:‏ حقّ العبد في الجملة، وهو الأمر الّذي يستقيم به أولاه وأخراه من مصالحه، مثل‏:‏ تحريم الخمر‏.‏

الثّالث‏:‏ حقّ العبد على غيره من العباد، وهو ما له عليهم من الذّمم والمظالم، مثل‏:‏ الدّين، وثمن المبيع‏.‏

الحقوق كلّها فيها حقّ للّه وحقّ للعبد

18 - كلّ حكم شرعيّ ليس بخال عن حقّ اللّه وهو جهة التّعبّد، فإنّ حقّ اللّه على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وعبادته امتثال أوامره واجتناب نواهيه بإطلاق‏.‏

فإن جاء ما ظاهره أنّه حقّ مجرّد للعبد فليس كذلك بإطلاق، بل جاء على تغليب حقّ العبد في الأحكام الدّنيويّة‏.‏ كما أنّ كلّ حكم شرعيّ فيه حقّ للعباد إمّا عاجلاً وإمّا آجلاً، بناءً على أنّ الشّريعة إنّما وضعت لمصالح العباد، ولذلك قال في الحديث‏:‏ «حقّ العباد على اللّه إذا عبدوه ولم يشركوا به شيئاً أن لا يعذّبهم»‏.‏

وعادتهم في تفسير حقّ اللّه أنّه ما فهم من الشّرع أنّه لا خيرة فيه للمكلّف، كان له معنًى معقول أو غير معقول‏.‏

وحقّ العبد‏:‏ ما كان راجعاً إلى مصالحه في الدّنيا‏.‏ فإن كان من المصالح الأخرويّة فهو من جملة ما يطلق عليه أنّه حقّ للّه‏.‏

ومعنى التّعبّد عندهم‏:‏ أنّه ما لا يعقل معناه على الخصوص‏.‏

وأصل العبادات راجعة إلى حقّ اللّه، وأصل العادات راجعة إلى حقوق العباد‏.‏

وقال العزّ بن عبد السّلام‏:‏ حقوق اللّه ثلاثة أقسام‏:‏ أحدها ما هو خالص للّه كالمعارف والأحوال المبنيّة عليها، والإيمان بما يجب الإيمان به، كالإيمان بإرسال الرّسل وإنزال الكتب وبما تضمّنته الشّرائع من الأحكام، وبالحشر والنّشر والثّواب والعقاب‏.‏

الثّاني‏:‏ ما يتركّب من حقوق اللّه وحقوق عباده كالزّكاة والصّدقات والكفّارات والأموال المندوبات والضّحايا والهدايا والوصايا والأوقاف، فهذه قربة إلى اللّه من وجه، ونفع لعباده من وجه، والغرض الأظهر منها نفع عباده وإصلاحهم بما وجب من ذلك أو ندب إليه، فإنّه قربة لباذليه ورفق لآخذيه‏.‏

الثّالث‏:‏ ما يتركّب من حقوق اللّه وحقوق رسوله صلى الله عليه وسلم وحقوق المكلّف والعباد أو يشتمل على الحقوق الثّلاثة‏.‏

ولذلك أمثلة‏:‏ أحدها الأذان، فيه الحقوق الثّلاثة‏:‏ أمّا حقّ اللّه تعالى فالتّكبيرات والشّهادة بالوحدانيّة، وأمّا حقّ الرّسول صلى الله عليه وسلم فالشّهادة له بالرّسالة، وأمّا حقّ العباد فبالإرشاد إلى تعريف دخول الأوقات في حقّ النّساء والمنفردين، والدّعاء إلى الجماعات في حقّ المقتدي‏.‏

تقديم الحقوق بعضها على بعض عند تيسّره وتعذّر الجمع

19 - قال الإمام الزّركشيّ‏:‏ حقوق اللّه إذا اجتمعت فهي على أقسام‏:‏

أ - ما يتعارض فيقدّم آكده‏.‏ فمنه‏:‏ تقديم الصّلاة آخر وقتها على رواتبها وكذلك على المقضيّة إذا لم يبق من الوقت إلاّ ما يسع الحاضرة فإن كان يسع المؤدّاة والمقضيّة فالفائتة أولى بالتّقديم مراعاةً للتّرتيب‏.‏ ومنها‏:‏ تقديم النّوافل المشروع فيها الجماعة كالعيدين على الرّواتب‏.‏ نعم تقدّم الرّواتب على التّراويح في الأصحّ، وتقديم الرّواتب على النّوافل المطلقة، وتقديم الوتر على ركعتي الفجر في الأصحّ، وتقديم الزّكاة على صدقة التّطوّع، والصّيام الواجب على نفله، والنّسك الواجب على غيره‏.‏

وإذا تيقّن المسافر وجود الماء آخر الوقت فتأخير الصّلاة لانتظاره أفضل من التّقديم بالتّيمّم‏.‏

ولو أوصى بماء لأولى النّاس به قدّم غسل الميّت على غيره، وغسل النّجاسة على الحدث، لأنّه لا بدل له، وفي غسل الجنابة والحيض ثلاثة أوجه‏:‏ الأوّل تقديم غسل الجنابة، والثّاني تقديم غسل الحيض، وثالثها أنّهما سواء فيقرع‏.‏ ويقدّم الغسل من غسل الميّت وغسل الجمعة على غيرهما من الأغسال، وأيّهما يقدّم قولان‏:‏ فصحّح العراقيّون تقديم الغسل من غسل الميّت على غسل الجمعة، لأنّ الشّافعيّ علّق القول بوجوبه على صحّة الحديث، وصحّح الخراسانيّون وتابعهم النّوويّ تقديم غسل الجمعة، لصحّة أحاديثه‏.‏ ومنها، قاعدة المحافظة على فضيلة تتعلّق بنفس العبادة أولى من المحافظة على فضيلة تتعلّق بمكانها‏.‏

ب - ما يتساوى لعدم المرجّح، كمن عليه فائت من رمضانين، فإنّه يبدأ بأيّهما شاء، وكذلك الشّيخ الّذي عليه فدية أيّام من رمضانين، ومن عليه شاتان منذورتان فلم يقدر إلاّ على إحداهما، نذر حجّاً أو عمرةً بنذر واحد أو بنذور مختلفة، فإنّه يبدأ بأيّهما شاء‏.‏

ج - ما تفاوتت، فيقدّم المرجّح، كالدّم الواجب في الإحرام، والزّكاة الواجبة، فإذا اجتمعا في شاة، فالزّكاة أولى، ومثله زكاة التّجارة والفطرة، إذا اجتمعا في مال يقصر عنهما، فالفطرة أولى، لتعلّقهما بالعين‏.‏

ولو وجبت عليه كفّارة الظّهار والقتل، ووجد الإطعام لإحداهما وهو من أهله، وقلنا بالإطعام في القتل، فالظّهار أولى‏.‏

د - ما اختلف فيه كالعاري هل يصلّي قائماً‏؟‏ ويتمّ الرّكوع والسّجود محافظةً على الأركان، أو يصلّي قاعداً مومياً محافظةً على ستر العورة، أو يتخيّر بينهما‏؟‏ والأصحّ الأوّل، وكذا المحبوس بمكان نجس، والأصحّ أنّه لا يسجد ولا يجلس، بل ينحني للسّجود إلى القدر الّذي لو زاد عليه لاقى النّجاسة‏.‏ ولو كان في موضع نجس ومعه ثوب، فهل يبسطه ويصلّي عريانًا أو يصلّي فيه أو يتخيّر بينهما‏؟‏ فيه الأوجه الثّلاثة، ولو لم يجد إلاّ ثوب حرير، فالأصحّ أنّه تجب الصّلاة فيه‏.‏ ولو اجتمع عراة فهل يستحبّ أن يصلّوا فرادى أو جماعةً أو يتخيّروا أو هما سواء‏؟‏ فيه ثلاثة أوجه‏.‏

وفي حقوق الآدميّين إذا اجتمعت‏:‏ قال الزّركشيّ أيضاً‏:‏ فتارةً تستوي كالقسم والنّفقة بين الزّوجات، وتساوي أولياء النّكاح في درجة، وتسوية الحكّام بين الخصوم في المحاكمات، وتساوي الشّركاء في القسمة والإجبار عليها، والتّسوية بين السّابقين إلى مباح‏.‏

وتارةً يترجّح أحدهما كنفقة نفسه على نفقة زوجته وقريبه، وتقديم نفقة زوجته على نفقة قريبه، وتقديم غرمائه عليه في بيع ماله، وقضاء دينه، وتقديمه على غرمائه بنفقته ونفقة عياله وكسوتهم في مدّة الحجر، وتقديم المضطرّ على غير المحتاج إليه، وتقديم ذوي الضّرورات على ذوي الحاجات، والتّقديم بالسّبق إلى المساجد ومقاعد الأسواق، وتقديم حقّ البائع على حقّ المشتري، والتّقديم في الإرث بالعصوبة وقرب الدّرجة وفي ولاية النّكاح بالأبوّة والجدودة، ثمّ بالعصوبة، والحقّ الثّابت لمعيّن أقوى من الحقّ الثّابت لغير معيّن، ولهذا تجب زكاة المال الموقوف على معيّن، بخلاف غير المعيّن، والحقّ المتعلّق بالعين أقوى من المتعلّق بالذّمّة، ولهذا قدّم البائع على المفلس بالسّلعة على الغرماء، وكذلك المرتهن يقدّم بالمرهون، ويقدّم ما له متعلّق واحد على ما له متعلّقان، كما لو جنى المرهون يقدّم المجنيّ عليه على المرتهن، لأنّه لا متعلّق له سوى الرّقبة، وحقّ المرتهن ثابت في الذّمّة‏.‏

وفي اجتماع حقّ اللّه وحقّ الآدميّ قال الزّركشيّ‏:‏ هو ثلاثة أقسام‏:‏

أ - ما قطع فيه بتقديم حقّ اللّه تعالى، كالصّلاة والزّكاة، والصّوم والحجّ، فإنّها تقدّم عند القدرة عليها على سائر أنواع التّرفّه والملاذّ تحصيلاً لمصلحة العبد في الآخرة، وكذلك تحريم وطء المتحيّرة، وإيجاب الغسل عليها لكلّ صلاة‏.‏

ب - ما قطع فيه بتقديم حقّ الآدميّ كجواز التّلفّظ بكلمة الكفر عند الإكراه ولبس الحرير عند الحكّة، وكتجويز التّيمّم بالخوف من المرض وغيره من الأعذار، وكذلك الأعذار المجوّزة لترك الجمعة والجماعات، والفطر في رمضان، والحجّ والجهاد وغيرها، والتّداوي بالنّجاسات غير الخمر، وإذا اجتمع عليه قتل قصاص وقتل ردّة قدّم قتل القصاص، وجواز التّحلّل بإحصار العدوّ‏.‏

ج - ما فيه خلاف بحقّه‏.‏ فمنها، إذا مات وعليه زكاة ودين آدميّ وفيه أقوال ثلاثة‏:‏ قيل تقدّم الزّكاة، وقيل يقدّم الدّين، وقيل إنّهما يتساويان والأصحّ تقديم حقّ اللّه تعالى‏.‏

ومنها، الحجّ والكفّارة، والأصحّ تقديم الحجّ والكفّارة، قال الرّافعيّ في كتاب الإيمان‏:‏ ولا تجري هذه الأقوال في حقّ المحجور، بل يقدّم حقّ الآدميّ ويؤخّر حقّ اللّه تعالى ما دام حيًّا، ومراده الحقوق المسترسلة في الذّمّة دون ما يتعلّق بالعين، فإنّه يقدّم حيًّا وميّتاً، ولهذا الزّكاة الواجبة في المرهون تقدّم على حقّ المرتهن، وإذا اجتمع على التّركة دين آدميّ وجزية، فالصّحيح تساويهما، والفرق بينها وبين الزّكاة أنّ المغلّب في الجزية حقّ الآدميّ، فإنّها عوض عن سكنى الدّار، فأشبهت غيرها من ديون الآدميّين، ولهذا، لو أسلم أو مات في أثناء السّنة لا تسقط الجزية، ولو مات في أثناء الحول لم تجب الزّكاة، وأيضاً، فإنّ الجزية تجب في أوّل الوجوب وجوبًا موسّعًا، والزّكاة لا تجب، إلاّ بآخر الحول‏.‏

ومنها إذا وجد المضطرّ ميتةً وطعام الغير، فأقوال، قيل‏:‏ تقدّم الميتة، وقيل طعام الغير، والثّالث أنّه يتخيّر‏.‏

ومنها، لو بذل الولد لوالده الطّاعة في أن يحجّ عنه وجب على الأب قبوله، وكذا لو بذل له الأجرة على وجه ولم نوجب عليه القبول في دين الآدميّ، بلا خلاف‏.‏

تقسيم الحقوق باعتبار قابليّتها للإسقاط وعدمه

20 - الحقّ إمّا أن يكون خالصًا للّه سبحانه وتعالى، وإمّا أن يكون حقّاً خالصاً للعبد، وإمّا أن يجتمع فيه حقّ اللّه وحقّ العبد مع الاختلاف في تغليب أحدهما، وقد تقدّم بيان ذلك‏.‏ وحقوق اللّه في الجملة إمّا عبادات محضة ماليّةً كانت كالزّكاة، أو بدنيّةً كالصّلاة، أو جامعةً للبدن والمال كالحجّ‏.‏ وإمّا عقوبات محضة كالحدود، وإمّا كفّارات وهي متردّدة بين العقوبة والعبادة‏.‏ والأصل أنّ الحقّ للّه سبحانه وتعالى، لأنّه ما من حقّ للعبد إلاّ وفيه حقّ اللّه تعالى وهو أمره بإيصال ذلك الحقّ إلى مستحقّه، وإفراد نوع من الحقوق بجعله حقًّا للعبد فقط إنّما هو بحسب تسليط العبد على التّصرّف فيه بحيث لو أسقطه لسقط‏.‏

وفيما يلي بيان ما يسقط من هذه الحقوق وما لا يسقط‏:‏

أوّلاً‏:‏ حقّ اللّه سبحانه وتعالى

21 - الأصل أنّ حقوق اللّه سبحانه وتعالى - سواء أكانت عبادات كالصّلاة والزّكاة، أم كانت عقوبات كالحدود، أم كانت متردّدةً بين العقوبة والعبادة كالكفّارات، أم غير ذلك من الحقوق الّتي تثبت للعبد بصفة ذاتيّة بمقتضى الشّريعة كحقّ الولاية على الصّغير، وحقّ الأبوّة، والأمومة، وحقّ الابن في الأبوّة والنّسب - هذه الحقوق لا تقبل الإسقاط من أحد من العباد، لأنّه لا يملك الحقّ في ذلك‏.‏

ومن حاول إسقاط حقّ من حقوق اللّه تعالى فإنّه يقاتل كما فعل أبو بكر رضي الله عنه بمانعي الزّكاة‏.‏ بل إنّ السّنن الّتي فيها إظهار الدّين وتعتبر من شعائره كالآذان لو اتّفق أهل بلدة على تركه وجب قتالهم‏.‏

ولا يجوز التّحيّل على إسقاط العبادات كمن كان له مال يقدر به على الحجّ فوهبه كي لا يجب عليه الحجّ، وكمن دخل عليه وقت صلاة فشرب دواءً منوّماً حتّى يخرج وقتها وهو فاقد لعقله كالمغمى عليه‏.‏

كما تحرم الشّفاعة لإسقاط الحدود الخالصة للّه تعالى، لأنّ الحدّ حقّ اللّه تعالى لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقد غضب حين شفع أسامة في المخزوميّة الّتي سرقت‏:‏ «أتشفع في حدّ من حدود اللّه تعالى‏؟‏» أمّا ما اجتمع فيه حقّ اللّه وحقّ العبد كالقذف مع الاختلاف في تغليب أحدهما، فإنّ من غلّب فيه جانب العبد أجاز العفو فيه قبل الرّفع للحاكم وبعده وهم الشّافعيّة والحنابلة‏.‏

وعند الحنفيّة لا يجوز العفو فيه بعد الرّفع وفي رواية عن أبي يوسف أنّه يجوز‏.‏

وقيّد المالكيّة العفو بعد الرّفع للحاكم بما إذا كان المقذوف يريد السّتر على نفسه، ولا يشترط هذا القيد بين الابن وأبيه‏.‏

وهذا بالنّسبة للحدود، أمّا التّعزير فما كان منه حقّاً للآدميّ جاز العفو عنه وما كان منه حقّاً للّه فهو موكول إلى الإمام بحسب ما يراه من المصلحة وهذا في الجملة‏.‏

وينظر تفصيل ذلك في مواضعه من أبواب الفقه‏.‏

كما أنّ من حقوق اللّه تعالى ما شرع أصلًا لمصلحة العباد، ولذلك لا يسقط بالإسقاط لمنافاة الإسقاط لما هو مشروع، ومن ذلك ولاية الأب على الصّغير، فهي من الحقوق الّتي اعتبرها الشّارع وصفاً ذاتيّاً لصاحبها فهي لازمة له ولا تنفكّ عنه، فحقّه ثابت بإثبات الشّرع، فيعتبر حقّاً للّه تعالى، ولذلك لا يسقط بإسقاط العبد‏.‏

ومن ذلك السّكنى في بيت العدّة، فعلى المعتدّة أن تعتدّ في المنزل الّذي يضاف إليها بالسّكنى حال وقوع الفرقة، والبيت المضاف إليها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ‏}‏ هو البيت الّذي تسكنه، ولا يجوز للزّوج ولا لغيره إخراج المعتدّة من مسكنها، وليس لها أن تخرج وإن رضي الزّوج بذلك، لأنّ في العدّة حقّاً للّه تعالى وإخراجها أو خروجها من مسكن العدّة مناف للمشروع، فلا يجوز لأحد إسقاطه‏.‏ وهذا في الجملة وينظر‏:‏ ‏(‏سكنى - عدّة‏)‏‏.‏ ومن ذلك أيضًا خيار الرّؤية، فبيع الشّيء قبل رؤيته يثبت للمشتري خيار الرّؤية، فله الأخذ وله الرّدّ عند رؤيته لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من اشترى شيئًا لم يره فله الخيار إذا رآه»‏.‏ فالخيار هنا ليس باشتراط العاقدين، وإنّما هو ثابت شرعًا فكان حقّ اللّه تعالى، ولهذا لا يجوز إسقاطه ولا يسقط بالإسقاط‏.‏ وهذا متّفق عليه عند من يجيزون بيع الشّيء الغائب مع مراعاة شرائط ثبوت الخيار‏.‏ وينظر تفصيل ذلك في ‏(‏خيار الرّؤية‏)‏‏.‏

وهكذا في كلّ ما كان حقًّا للّه تعالى ممّا شرع لمصلحة العباد لا يجوز إسقاطه‏.‏

وما دامت حقوق اللّه تعالى لا تقبل الإسقاط من العباد فلا يجوز الاعتياض عن إسقاطها، فلا يصحّ أن يصالح أحد سارقاً أو شارباً للخمر ليطلقه ولا يرفعه للسّلطان لأنّه لا يصحّ أخذ العوض في مقابلته، وكذا لا يصحّ أن يصالح شاهداً على أن لا يشهد عليه بحقّ للّه أو لآدميّ، لأنّ الشّاهد في إقامة الشّهادة محتسب حقًّا للّه تعالى، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ‏}‏ والصّلح عن حقوق اللّه تعالى باطل، ويجب على من أخذ عوضاً ردّه لأنّه أخذه بغير حقّ‏.‏ وإذا كانت حقوق اللّه سبحانه وتعالى لا تقبل الإسقاط من جهة العباد، فإنّها تقبل الإسقاط من قبل صاحب الشّرع رحمةً بالعباد وتخفيفاً عنهم، ولذلك يقول الفقهاء‏:‏ إنّ حقوق اللّه مبنيّة على المسامحة بمعنى أنّه سبحانه وتعالى لن يلحقه ضرر في شيء، ومن ثمّ قبل الرّجوع عن الإقرار بالزّنى فيسقط الحدّ بخلاف حقوق الآدميّين فإنّهم يتضرّرون، ولذلك كان من أسباب سقوط الحدّ الشّبهة المعتبرة، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ادرءوا الحدود بالشّبهات»‏.‏

والحرج والمشقّة الّتي تلحق المكلّف تكون سبباً لإسقاط بعض التّكاليف عمّن تلحقهم المشقّة وذلك تفضّلًا من اللّه تعالى ورحمةً بهم، وذلك كإسقاط العبادات والعقوبات عن المجنون، وإسقاط بعض العبادات بالنّسبة لأصحاب الأعذار كالمرضى والمسافرين لما ينالهم من مشقّة‏.‏ وقد فصّل الفقهاء المشاقّ وأنواعها، وبيّنوا لكلّ عبادة مرتبةً معيّنةً من مشاقّها المؤثّرة في إسقاطها، وأدرجوا ذلك تحت قاعدة‏:‏ المشقّة تجلب التّيسير، أخذاً من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ‏}‏‏.‏ وراجع مصطلح ‏(‏تيسير‏)‏‏.‏

والحكم المبنيّ على الأعذار يسمّى رخصةً، ومن أقسام الرّخصة ما يسمّى رخصة إسقاط كإسقاط الصّلاة عن الحائض والنّفساء، وإسقاط الصّوم عن الشّيخ الكبير الّذي لا يقوى على الصّوم‏.‏ بل إنّ صلاة المسافر قصراً فرض عند الحنفيّة وتعتبر رخصة إسقاط لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «صدقة تصدّق اللّه بها عليكم فاقبلوا صدقته»‏.‏

ووجه الاستدلال أنّ التّصدّق بما لا يحتمل التّمليك إسقاط لا يحتمل الرّدّ، وإن كان ممّن لا يلزم طاعته كوليّ القصاص، فهو من اللّه الّذي تلزم طاعته أولى‏.‏

ومن ذلك أيضاً إسقاط الحرمة في تناول المحرّم للضّرورة كأكل المضطرّ للميّتة وإساغة اللّقمة بالخمر لمن غصّ بها، وإباحة نظر العورة للطّبيب‏.‏

ويسري هذا الحكم على المعاملات، فمن الرّخصة ما سقط مع كونه مشروعاً في الجملة، وذلك كما في السّلم لقول الرّاوي‏:‏ «نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخّص في السّلم» والأصل في البيع أن يلاقي عينًا وهذا مشروع لكنّه سقط في السّلم‏.‏

وينظر تفصيل ذلك في بحث‏:‏ ‏(‏تيسير - رخصة - وإسقاط‏)‏ ومواضعه من كتب الفقه‏.‏

حقوق العباد

22 - حقّ العبد بالنّسبة للإسقاط وعدمه يشمل الأعيان والمنافع والدّيون والحقوق المطلقة وهي الّتي ليست عيناً ولا ديناً ولا منفعةً‏.‏

والأصل أنّ كلّ صاحب حقّ لا يمنع من إسقاط حقّه إذا كان جائز التّصرّف - بأن لم يكن محجورًا عليه - وكان المحلّ قابلاً للإسقاط - بأن لم يكن عيناً أو شيئاً محرّماً - ولم يكن هناك مانع كتعلّق حقّ الغير به‏.‏ وبيان ذلك فيما يأتي‏:‏

أ - العين‏:‏

23 - العين ما تحتمل التّعيين مطلقاً جنساً ونوعاً وقدراً وصفةً كالعروض من الثّياب، والعقار من الأرضين والدّور، والحيوان من الدّوابّ، والمكيل والموزون‏.‏

ومالك العين يجوز له التّصرّف فيها بالنّقل على الوجه المشروع من بيع أو هبة أو غير ذلك‏.‏ أمّا التّصرّف فيها بالإسقاط بأن يقول الشّخص‏:‏ أسقطت ملكي في هذه الدّار لفلان، يريد بذلك زوال ملكه وثبوته لغيره فقد قال الفقهاء‏:‏ إنّ ذلك باطل، لأنّ الأعيان لا تقبل الإسقاط وهذا في الجملة، إذ أنّ العتق يعتبر إسقاطاً لملك الرّقبة وهي عين، والوقف كذلك يعتبر إسقاطًا للملك عند بعض الفقهاء‏.‏ وينظر تفصيل ذلك في بحثي‏:‏ ‏(‏إبراء - إسقاط‏)‏‏.‏

ب - الدّين‏:‏

24 - الدّين يجوز إسقاطه والاعتياض عنه باتّفاق سواء أكان الدّين ثمن مبيع، أم كان مسلمًا فيه، أم كان نفقةً مفروضةً ماضيةً للزّوجة، أم غير ذلك‏.‏

وكما يجوز إسقاط كلّ الدّين يجوز إسقاط بعضه وتختلف الكيفيّة الّتي يتمّ بها الاعتياض فقد يكون في صورة صلح، أو خلع، أو تعليق على حصول شيء وغير ذلك‏.‏

ومن أمثلة ذلك ما جاء في ابن عابدين‏:‏ إذا أبرأت الزّوجة زوجها من المهر والنّفقة ليطلّقها، صحّ الإبراء ويكون بعوض وهو ملكها نفسها‏.‏

ويقول الشّافعيّة‏:‏ إذا أعطى المدين الدّائن ثوبًا في مقابلة إبرائه ممّا عليه من الدّين، فيملك الدّائن العوض المبذول له نظير الإبراء ويبرأ المدين‏.‏ وقد جعل القرافيّ من أقسام الإسقاط بعوض‏:‏ الصّلح عن الدّين‏.‏ وينظر تفصيل ذلك في‏:‏ ‏(‏إبراء - إسقاط‏)‏‏.‏

ج - المنافع‏:‏

25 - المنافع كذلك يجوز إسقاطها، سواء أكان المسقط مالكًا للرّقبة والمنفعة، أم كان مالكًا للمنفعة فقط بمقتضى عقد، كالإجارة والعاريّة والوصيّة بالمنفعة، أم بغير عقد كتحجير الموات لإحيائه، ومن ذلك الاختصاص بمقاعد الأسواق وما شابه ذلك، فالمنافع تقبل الإسقاط بإسقاط مستحقّ المنفعة ما لم يكن هناك مانع‏.‏

ومن أمثلة ذلك أنّ من أوصى لرجل بسكنى داره فمات الموصي وباع الوارث الدّار ورضي الموصى له جاز البيع وبطلت سكناه، وكذا لو لم يبع الوارث الدّار ولكن قال الموصى له بالمنفعة أسقطت حقّي سقط حقّه بالإسقاط‏.‏

وأماكن الجلوس في المساجد والأسواق يجوز للمنتفع بها إسقاط الحقّ فيها‏.‏ هذا بالنّسبة لإسقاطها بدون عوض، أمّا بالنّسبة لإسقاطها بعوض فإنّه يرجع إلى قاعدة التّفريق بين ملك المنفعة وملك الانتفاع، فمن ملك المنفعة ملك المعاوضة عليها، ومن ملك الانتفاع فقط فإنّه يملك الإسقاط ولكن لا يجوز المعاوضة عليه، وهذا عند الجمهور - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - أمّا الحنفيّة فلهم بعض القيود فإنّ الاعتياض عن المنافع عندهم لا يجوز إلاّ لمالك الرّقبة والمنفعة، أو لمالك المنفعة بعوض، أمّا مالك المنفعة بدون عوض فلا يجوز الاعتياض عنها‏.‏ والمنافع عندهم ليست بأموال‏.‏

كما لا يجوز عندهم إفراد حقوق الارتفاق بعقد معاوضة على الأصحّ وإنّما يجوز تبعًا‏.‏

ومن أمثلة المعاوضة على المنفعة ما لو أوصى شخص لرجلين أحدهما بعين الدّار والثّاني بسكناها، وصالح الأوّل الثّاني لأنّ الموصى له بعين الدّار صالح الموصى له بسكناها بدراهم أو بمنفعة عين أخرى لتسلم الدّار له جاز‏.‏

وينظر تفصيل ذلك في ‏(‏إجارة - إعارة - وصيّة - وقف - ارتفاق‏)‏‏.‏

د - الحقّ المطلق‏:‏

26 - المراد بحقّ العبد المطلق هنا ما ليس بعين ولا دين ولا منفعة كما سبق، وذلك كحقّ الشّفعة، وحقّ الخيار، وحقّ الزّوجة في القسم، وحقّ القصاص، وحقّ الأجل، وما شابه ذلك فهذه الحقوق وما شابهها يجوز إسقاطها، لأنّ كلّ صاحب حقّ لا يمنع من إسقاط حقّه ما لم يكن هناك مانع‏.‏

ومن الموانع الّتي تمنع إسقاط مثل هذه الحقوق ما هو متّفق عليه، ومنها ما هو مختلف فيه‏.‏ فممّا هو متّفق على منع إسقاطه ما تعلّق به حقّ الغير، كحقّ الصّغير في النّسب‏.‏ فإذا ثبت هذا الحقّ فإنّه لا يجوز لمن لحق به الصّغير إسقاط النّسب، فمن أقرّ بابن، أو هنّئ به فسكت فقد التحق به، ولا يصحّ له إسقاط نسبه بعد ذلك‏.‏

ومن ذلك تصرّف المفلس المحجور عليه للفلس، فإنّه يمنع من حقّ التّصرّف في ماله تصرّفاً مستأنفاً، كوقف وعتق وإبراء وعفو مجّانًا، وذلك لتعلّق حقّ الغرماء بماله‏.‏

ومن أمثلة ما هو مختلف فيه صفات الحقوق كالأجل والجودة، فعند الشّافعيّة‏:‏ صفات الحقوق لا تفرد بالإسقاط في الأصحّ فلا يسقط الأجل، ومثله الجودة بالإسقاط في حين أنّه يجوز ذلك عند الحنفيّة‏.‏

وغير ذلك كإسقاط المجهول، وإسقاط الحقّ قبل وجوبه، وبعد وجود سبب الوجوب‏.‏

وينظر تفصيل ذلك في‏:‏ ‏(‏إبراء - إسقاط‏)‏‏.‏

وأمّا الاعتياض عن الحقوق فالقاعدة عند بعض فقهاء الحنفيّة أنّ الحقّ إذا كان مجرّداً عن الملك فإنّه لا يجوز الاعتياض عنه، كحقّ الشّفعة، فلو صالح عنه بمال بطل حقّه في الشّفعة ويرجع به‏.‏ إلخ‏.‏

وحقّ القسم للزّوجة، وحقّ الخيار في النّكاح للمخيّرة، وإن كان حقّاً منفرداً في المحلّ الّذي تعلّق به صحّ الاعتياض عنه، كحقّ القصاص، وملك النّكاح، وحقّ الرّقّ، وقال آخرون منهم‏:‏ إنّ الحقّ إذا كان شرع لدفع الضّرر فلا يجوز الاعتياض عنه، وإن كان ثبوته على وجه البرّ والصّلة فيكون ثابتًا لصاحبه أصالةً فيصحّ الاعتياض عنه‏.‏

أمّا غير الحنفيّة فلم يشيروا إلى قاعدة يمكن الاستناد إليها في معرفة ذلك، لكن بعد التّتبّع لبعض المسائل يمكن أن يقال في الجملة‏:‏ إنّ الشّافعيّة والحنابلة يعتبرون أنّ الحقّ الّذي لا يئول إلى المال، أو ما ليس عينًا ولا منفعةً كحقّ الشّفعة، وحقّ خيار الشّرط، وهبة الزّوجة يومها لضرّتها، فهذا لا يجوز الاعتياض عنه، أمّا ما كان يئول إلى مال كحقّ القصاص والرّدّ بالعيب، فإنّه يجوز الاعتياض عنه‏.‏

وهذا في الجملة إذ أنّ ابن تيميّة أجاز للزّوجة أخذ العوض عن هبتها يومها لضرّتها وعن سائر حقوقها من القسم، كما أنّه في رواية عن الإمام أحمد جواز الاعتياض عن حقّ الشّفعة من المشتري لا من غيره، ويؤخذ من المسائل الّتي وردت عند المالكيّة أنّهم يجيزون أخذ العوض عن كلّ حقّ ثبت للإنسان فيجوز عندهم الاعتياض عن الشّفعة وعن هبة الزّوجة يومها لضرّتها وغير ذلك‏.‏ وينظر ذلك في مواضعه من كتب الفقه‏.‏

تقسيم الحقوق باعتبار معقوليّة المعنى

27 - قسّم الشّاطبيّ الحقوق باعتبار معقوليّة المعنى وعدم معقوليّة المعنى ‏"‏ التّعبّديّ ‏"‏ إلى ثلاثة أقسام‏:‏

القسم الأوّل‏:‏ ما هو حقّ اللّه خالصاً

مثل‏:‏ العبادات، لأنّ الأصل في تنفيذ حقّ اللّه هو التّعبّد‏.‏

حكمه‏:‏ إذا طابق الفعل الأمر صحّ الفعل، وإذا لم يطابق الفعل الأمر لا يصحّ الفعل، والدّليل على ذلك‏:‏ أنّ الأصل في التّعبّد رجوعه إلى عدم معقوليّة المعنى، بحيث لا يصحّ فيه إجراء القياس، وإذا لم يعقل معناه دلّ على أنّ قصد الشّارع فيه هو الوقوف عند ما حدّه الشّارع، بحيث لا يتعدّاه‏.‏ مثل بعض أفعال الصّلاة والحجّ‏.‏ وانظر مصطلح ‏(‏تعبّديّ‏)‏‏.‏

القسم الثّاني‏:‏ ما هو مشتمل على حقّ اللّه وحقّ العبد، والمغلّب فيه حقّ اللّه، والأصل في حقّ اللّه عدم معقوليّة المعنى‏.‏ مثل‏:‏ قتل النّفس، لأنّه ليس للشّخص خيرة أو حقّ في أن يسلم نفسه للقتل لغير ضرورة شرعيّة كالفتن ونحوها، كما أنّه لا يملك الاعتداء على نفسه بالقتل، لحقّ اللّه أو الاعتداء على عضو من أعضائه‏.‏ وحقّ اللّه هو المعتبر والمغلّب‏.‏ حكمه‏:‏ مثل القسم الأوّل وراجع له في أنّ الأصل فيه عدم معقوليّة المعنى، لأنّ المعتبر في الحقّين هو حقّ اللّه، فصار حقّ العبد مطّرحًا شرعًا، فكأنّه غير معتبر، لأنّ حقّ العبد لو كان معتبرًا تغلّب حقّه، والمفروض‏:‏ أنّ حقّ اللّه هو المغلّب‏.‏

القسم الثّالث‏:‏ ما اشترك فيه الحقّان وحقّ العبد هو المغلّب‏.‏ وأصله معقوليّة المعنى‏.‏

فإذا طابق مقتضى الأمر والنّهي فلا إشكال في الصّحّة، لحصول مصلحة العبد بذلك عاجلاً أو آجلًا حسبما يتهيّأ له‏.‏ وإن وقعت المخالفة فهنا نظر، أصله المحافظة على تحصيل مصلحة العبد‏.‏ فإمّا أن يحصل مع ذلك حقّ العبد ولو بعد الوقوع، على حدّ ما كان يحصل عند المطابقة أو أبلغ، أو لا‏.‏ فإن فرض غير حاصل فالعمل باطل، لأنّ مقصود الشّارع لم يحصل‏.‏ وإن حصل - ولا يكون حصوله إلاّ مسبّباً عن سبب آخر غير السّبب المخالف - صحّ وارتفع مقتضى النّهي بالنّسبة إلى حقّ العبد‏.‏ ولذلك يصحّح مالك بيع المدبّر إذا أعتقه المشتري، لأنّ النّهي لأجل فوت العتق‏.‏ فإذا حصل فلا معنى للفسخ عنده بالنّسبة إلى حقّ المملوك‏.‏ وكذلك يصحّح العقد فيما تعلّق به حقّ الغير إذا أسقط ذو الحقّ حقّه، لأنّ النّهي قد فرضناه لحقّ العبد، فإذا رضي بإسقاطه فله ذلك‏.‏ وأمثلة هذا القسم كثيرة‏.‏

فإذا رأيت من يصحّح العمل المخالف بعد الوقوع، فذلك لأحد الأمور الثّلاثة‏.‏

أمّا العبادات فمن حقّ اللّه تعالى الّذي لا يحتمل الشّركة، فهي مصروفة إليه‏.‏

وأمّا العادات فهي أيضًا من حقّ اللّه تعالى على النّظر الكلّيّ، ولذلك لا يجوز تحريم ما أحلّ اللّه من الطّيّبات، فقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ‏}‏‏.‏

فنهى عن التّحريم وجعله تعدّياً على حقّ اللّه تعالى‏.‏ ولمّا همّ بعض أصحابه بتحريم بعض المحلّلات قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «من رغب عن سنّتي فليس منّي»‏.‏

وذمّ اللّه تعالى من حرّم على نفسه شيئًا ممّا وضعه من الطّيّبات بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ هَـذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نّشَاء بِزَعْمِهِمْ‏}‏‏.‏

فذمّهم على أشياء في الأنعام والحرث اخترعوها، منها التّحريم‏.‏ وهو المقصود هاهنا‏.‏

وأيضاً ففي العادات حقّ للّه تعالى من جهة وجه الكسب ووجه الانتفاع، لأنّ حقّ الغير محافظ عليه شرعاً أيضاً، ولا خيرة فيه للعبد، فهو حقّ للّه تعالى صرفًا في حقّ الغير، حتّى يسقط حقّه باختياره في بعض الجزئيّات، لا في الأمر الكلّيّ‏.‏ ونفس المكلّف أيضاً داخلة في هذا الحقّ، إذ ليس له التّسليط على نفسه ولا على عضو من أعضائه بالإتلاف‏.‏ فإذًا العاديّات يتعلّق بها حقّ اللّه من وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ من جهة الوضع الأوّل الكلّيّ الدّاخل تحت الضّروريّات‏.‏

الثّاني‏:‏ من جهة الوضع التّفصيليّ الّذي يقتضيه العدل بين الخلق، وإجراء المصلحة على وفق الحكمة البالغة، فصار الجميع ثلاثة أقسام، وفي العاديّات أيضاً حقّ للعبد من وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ جهة الدّار الآخرة، وهو كونه مجازًى عليه بالنّعيم، موقًّى بسببه عذاب الجحيم‏.‏ والثّاني‏:‏ جهة أخذه للنّعمة على أقصى كمالها فيما يليق بالدّنيا لكن بحسبه في خاصّة نفسه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏}‏‏.‏

الحقّ المحدود المقدار والحقّ غير المحدود

28 - تنقسم الحقوق باعتبار التّحديد والتّقدير وعدمه إلى ثلاثة أقسام‏:‏ حقّ محدود، وحقّ غير محدود، وحقّ مختلف فيه‏.‏

القسم الأوّل‏:‏ الحقّ المحدود وهو الحقّ الّذي بيّن الشّرع أو الالتزام أنّه مقدّر‏.‏

مثل‏:‏ الفرائض الخمس في الصّلاة، وصوم رمضان، والمقادير الواجب إخراجها في الزّكاة حسب أنواعها، وذلك في العبادات‏.‏

أمّا في المعاوضات الماليّة، فمثل‏:‏ أثمان المشتريات في العقود، وقيم المتلفات‏.‏

حكم الحقّ المحدود

29 - للحقّ المحدود المقدار أحكام منها‏:‏

أ - أنّه مطلوب الأداء‏.‏

ب - يتعلّق بذمّة من عليه أداء الحقّ، وذلك بمجرّد وجود سببه، ويصير ديناً في ذمّته‏.‏

ج - لا تبرأ الذّمّة منه إلاّ بأداء المقدار المحدّد، على الوجه الّذي عيّنه الشّرع أو الالتزام وبيّنه، لأنّ التّحديد مشعر بقصد الشّارع أو الالتزام‏.‏

د - لا يسقط عند عدم الأداء بالسّكوت أو بمضيّ المدّة الطّويلة‏.‏

هـ - يؤدّى عن المدّة السّابقة‏.‏

و - لا يتوقّف ثبوته على الرّضا أو حكم القاضي أو المصالحة، لأنّه محدّد من قبل من جهة الشّرع أو الالتزام‏.‏

ز - حكم القاضي به مظهر للحقّ لا مثبت له، لأنّه ثابت من وقت تحديده على المكلّف‏.‏

ح - لا يسقط هذا الحقّ عند عدم الأداء إلاّ بدليل شرعيّ في حقّ اللّه، مثل‏:‏ سقوط الصّلاة عن الحائض، أمّا في حقّ الشّخص فيسقط بإبراء الذّمّة‏.‏ وحقّ اللّه المحدود لاحق بضروريّات الدّين‏.‏

القسم الثّاني‏:‏ الحقّ غير المحدود

29 م - هو الحقّ الّذي لم يعيّن الشّرع أو الالتزام مقداره، مع وجود التّكليف به‏.‏ مثل‏:‏ الصّدقات، والإنفاق في سبيل اللّه، والإنفاق على الأقارب، وإغاثة الملهوف، وسدّ حاجة المحتاجين، وغير ذلك من الحقوق الّتي لم تحدّد، وذلك لتعذّر تحديد هذه الحقوق بالنّسبة لظروف كلّ حقّ، حيث تختلف المقادير المطلوبة حسب الأزمنة والأمكنة المختلفة، وكذلك الحال بالنّسبة للأشخاص - المؤدّى له الحقّ والمؤدّي - وذلك لأنّ المطلوب أداء الحقّ على أكمل وجه، وهو يختلف باختلاف كلّ حقّ، فترك التّحديد بادئ ذي بدء ليتحدّد قدر المطلوب حسب كلّ حالة على حدة‏.‏

حكم الحقّ غير المحدود

30 - للحقّ غير المحدود أحكام منها‏:‏

أ - أنّه مطلوب الأداء‏.‏

ب - لا يتعلّق بذمّة من عليه الأداء بمجرّد وجود السّبب، ولذلك لا يصير ديناً في الذّمّة، لأنّ الذّمم لا يتعلّق بها غير المحدود من الحقوق، وإنّما يتعلّق بالذّمّة الحقّ المحدود والمقدّر، ليتيسّر على المكلّف الأداء‏.‏

ج - الحقّ غير المحدود لا يتعلّق بالذّمّة إلاّ بعد التّحديد، والتّحديد يكون بالتّراضي، أو بالصّلح، أو بحكم القاضي، لأنّ التّكليف بقدر الحاجة ولذلك لا يتعلّق بالذّمّة إلاّ من وقت التّحديد‏.‏

د - لا يجوز المطالبة بالحقّ غير المحدود عن المدّة السّابقة للتّحديد، لأنّ الذّمّة لم تكن مشغولةً به‏.‏

هـ - يسقط الحقّ غير المحدود بمضيّ المدّة والسّكوت عن المطالبة به‏.‏

و - حقّ اللّه غير المحدود لاحق بقاعدة التّحسين والتّزيين، ولذلك ترك تحديده إلى المكلّفين ونظر القاضي، لتقدير كلّ حالة حسب الحاجة‏.‏

القسم الثّالث‏:‏ الحقّ المختلف فيه

31 - هو الحقّ الّذي أخذ بشبه من الحقّ المحدود، وبشبه من الحقّ غير المحدود‏.‏ مثل‏:‏ نفقة الزّوجة، حيث اختلف الفقهاء في هذا الحقّ، فذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة على الأظهر عندهم - إلى أنّها تثبت في الذّمّة فلا تسقط بالإعسار‏.‏

وذهب الحنفيّة وهو رواية عن الحنابلة وغيرهم إلى أنّ نفقة الزّوجة لا تثبت في الذّمّة لأنّها تجب صلةً ومودّةً ما لم يفرضها الحاكم، وإذا فرضها الحاكم تكون محدّدةً فتثبت في الذّمّة‏.‏

أنواع التّحديد وعدم التّحديد

32 - تحديد الحقّ وعدم تحديده قد يكون بالنّسبة لصاحب الحقّ، وقد يكون بالنّسبة لمن عليه الحقّ، وقد يكون في الشّيء المستحقّ، وقد يكون في القدر المستحقّ، وقد يكون في المكان، أو الزّمان، أو الاتّجاه وغير ذلك‏.‏

أ - الحقّ المحدود صاحبه‏:‏ كالبائع في ثمن ما باعه، والمشتري في المبيع، والزّوجة في النّفقة‏.‏ أمّا الحقّ غير المحدود صاحبه، فمثل‏:‏ المنتفع بالمباحات والمنافع العامّة‏.‏

ب - الحقّ المحدود من عليه الأداء - المكلّف - مثل‏:‏ الصّلوات الخمس على البالغ العاقل، والزّكاة على مالك النّصاب، ونفقة الزّوجة على الزّوج، ونفقة الأولاد الصّغار الفقراء على الأب، والثّمن على المشتري‏.‏

أمّا الحقّ غير المحدود من عليه الأداء - المكلّف - فمثل‏:‏ صلاة الجنازة، وردّ السّلام، وتعلّم الفقه والطّبّ وغير ذلك من فروض الكفاية وسننها‏.‏

ج - الحقّ المحدود في الشّيء المطلوب، مثل‏:‏ الإيمان باللّه تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والجنّة والنّار والحساب، وملكيّة المبيع للمشتري وخروجه من ملك البائع بمجرّد انعقاد العقد الصّحيح النّافذ، وحلّ الزّوجة بعقد النّكاح‏.‏

أمّا الحقّ غير المحدود في الشّيء المطلوب، فمثل‏:‏ دفع الأذى عن الطّريق‏.‏

د - الحقّ المحدود القدر، مثل‏:‏ القدر المحدود في الزّكاة، والثّمن في المبيع‏.‏ أمّا الحقّ غير المحدود القدر، فمثل‏:‏ الصّدقات، والجهاد في سبيل اللّه، ومساعدة المحتاجين‏.‏

هـ - الحقّ المحدود المكان، مثل‏:‏ الوقوف بجبل عرفات في الحجّ، ومكان تسليم المبيع أو المسلم فيه المشروط في العقد‏.‏ أمّا الحقّ غير المحدود المكان، فمثل‏:‏ الصّلاة، والتّعاقد في البيع والزّواج، وغير ذلك من العقود‏.‏

و - الحقّ المحدود الزّمن والوقت، مثل‏:‏ الصّلوات الخمس والحجّ‏.‏ أمّا الحقّ غير المحدود الزّمن والوقت، فمثل‏:‏ السّنة الّتي يؤدّي فيها الشّخص فريضة الحجّ عند من يرى من الفقهاء وجوب الحجّ على التّراخي، وسداد الدّيون الّتي لم يحدّد لها وقت للأداء‏.‏

ز - الحقّ المحدود الاتّجاه، مثل‏:‏ عين الكعبة لمن يصلّي في المسجد الحرام‏.‏

أمّا الحقّ غير المحدود الاتّجاه، فمثل‏:‏ الوقوف بعرفة‏.‏

ح - الحقّ المحدود العدد، مثل‏:‏ أركان الإسلام الخمسة، وفرائض الصّلاة الخمس، والجمع بين أربع زوجات، وطرفي العقد وهما‏:‏ الموجب والقابل‏.‏

أمّا الحقّ غير المحدود العدد، فمثل عدد أيّام شهر رمضان فقد يتمّ الشّهر وقد يكون تسعةً وعشرين، وأيّام السّفر الشّرعيّ بالنّسبة لقصر الصّلاة‏.‏

الحقّ التّامّ والمخفّف

33 - تنقسم الحقوق باعتبار حال التّكليف من حيث وجود أعذار معتبرة تقتضي التّخفيف أو عدم وجودها إلى قسمين‏:‏ تامّ ومخفّف‏.‏

الحقّ التّامّ‏:‏ هو ما وجب أصلاً في الحالة الطّبيعيّة مع عدم وجود عذر شرعيّ‏.‏

مثل‏:‏ أداء الصّلاة كاملةً للمقيم الصّحيح، وأداء الدّين كاملاً وغير ذلك‏.‏

والحقّ المخفّف‏:‏ هو ما شرع على خلاف الأصل، بسبب عذر شرعيّ لتيسير الأداء على المكلّف بها‏.‏ والتّخفيف قد يكون في حقوق اللّه تعالى، وقد يكون في حقوق العباد، وهو أنواع‏:‏ تخفيف إسقاط، وتخفيف نقص، وتخفيف تقديم، وتخفيف تأخير، وتخفيف ترخيص، وتخفيف تغيير‏.‏ وانظر مصطلح ‏(‏تيسير‏)‏‏.‏

تقسيم الحقوق باعتبار انتقالها للورثة وعدم انتقالها

34 - تنقسم الحقوق باعتبار انتقالها للورثة عن طريق الخلافة أو الوراثة، وعدم انتقالها أصلاً إلى ثلاثة أقسام‏.‏

أوّلاً‏:‏ الحقوق الّتي تورث، وهي‏:‏

أ - الحقوق الماليّة، مثل‏:‏ العقار، والمنقول والنّقدين، والدّيون، والدّية، والغرّة‏.‏

ب - الحقوق المقرّرة على عقار، مثل‏:‏ حقّ الشّرب، وحقّ المجرى، وحقّ المسيل، وحقّ المرور‏.‏

ج - بعض ما يتعلّق بالمال من حقوق، مثل‏:‏ حقّ حبس الرّهن إلى سداد الدّين، وحبس المبيع حتّى دفع الثّمن‏.‏

ثانياً‏:‏ الحقوق الّتي تثبت بالخلافة ولا تورث

35 - هي الحقوق الّتي تثبت للخلف ابتداءً، ولا تنتقل إليه عن طريق الإرث، وهذه الحقوق قد تثبت لجميع الورثة، كما في بعض الحقوق المتعلّقة بالمال عند الحنفيّة، مثل‏:‏ خيار التّعيين، وقد ثبت لبعض الورثة دون البعض الآخر، مثل أن تثبت لمن صلته عن طريق النّسب كالأولاد، ولا تثبت لمن صلته عن طريق السّبب كأحد الزّوجين، وذلك في الحقوق غير الماليّة كالقصاص عند أبي حنيفة ومالك والشّافعيّ، فهو حقّ عندهم لأولياء المقتول بالنّسب فقط، وثبت لهم ابتداءً‏.‏ وقد تثبت الحقوق لمن قرابته عن طريق العصبة الذّكور، ولا تثبت لمن عداهم، مثل‏:‏ ولاء العتاقة‏.‏

وقد تثبت الحقوق لبعض الورثة دون البعض الآخر ولمدّة محدودة، وذلك حسب النّظام الّذي يضعه الموصي أو الواقف في شروط صرف غلّة الوقف والوصيّة، أو الّذي يضعه الإمام لصرف هذه الحقوق، وذلك كالحقّ الثّابت في ديوان الخراج للمقاتلين والعلماء والفقهاء وغيرهم، فإنّه بعد موتهم ينتقل إلى ورثتهم كلّهم أو بعضهم حسب النّظام الموضوع لذلك فمن مات وله حقّ في بيت المال عن طريق الاستحقاق والمنح كالعطاء، فإنّ هذا الحقّ لا يورث عنه، ولا يثبت لجميع الورثة، وإنّما يثبت للبعض أو الكلّ، لا باعتبارهم ورثةً، وإنّما باعتبارهم خلفاً عن الميّت، فكان حقّ الورثة في العطاء عن طريق الخلافة، ومنح الإمام لهم ذلك العطاء، وليس للإمام أو الحاكم منع هذا الحقّ، أو حرمانهم منه، وإذا منعهم فقد ظلم‏.‏

ثالثاً‏:‏ الحقوق الّتي لا تورث ولا تنقل بالخلافة

36 - هي كلّ ما كان متعلّقًا بنفس المورث، وينتهي بموته، ولا يبقى له فيه حقّ بعد موته، وذلك لأنّ الورثة لا يرثون فكر مورثهم ولا شهوته وغير ذلك، ولذلك لا يرثون ما يتعلّق بهذه الأمور، ضرورة أنّ ما لا يورث بذاته لا يورث ما يتعلّق به‏.‏

والحقوق الّتي لا تورث هي حقوق شخصيّة، ارتبطت بالشّخص وحده دون غيره لصفات معيّنة فيه، مثل‏:‏ الولايات العامّة والخاصّة، والولاية على النّفس، والولاية على المال، والمناصب والوظائف‏.‏ مثل‏:‏ الأمانة والوكالة، واختيار إحدى الأختين، وكذلك اختيار الأربع من زوجاته، وذلك إذا أسلم وهو متزوّج أختين أو أكثر من أربع، فإذا مات قبل الاختيار لا ينتقل هذا الحقّ إلى الورثة‏.‏

37 - وهناك حقوق اختلف الفقهاء فيها، فذهب البعض إلى أنّها تورث، وقال البعض‏:‏ إنّها تنتقل بالخلافة، وقال البعض الآخر‏:‏ إنّها لا تورث، ويرجع اختلافهم إلى عدّة أسباب، وهي أنواع، منها ما يأتي‏:‏ بعض ما يتعلّق بالمال من حقوق، مثل‏:‏ خيار الشّرط، وخيار التّعيين، وخيار العيب، وخيار القبول‏.‏

ومنها‏:‏ المنافع، مثل‏:‏ السّكنى، والمنفعة بالوصيّة‏.‏

ومنها‏:‏ القصاص في النّفس، وحدّ القذف‏.‏ فإذا نظرنا إلى الأسباب الّتي بنوا عليها أحكامهم ممّا يترتّب عليه اختلافهم، نجد أنّها تتنوّع، إلى ما يلي‏:‏

أ - خيار الشّرط‏:‏

38 - ذهب مالك والشّافعيّ إلى انتقاله للورثة، لأنّ خيار الشّرط صفة للعقد، وأثر من آثاره، فيورث‏.‏

وذهب أبو حنيفة وأحمد بن حنبل إلى عدم انتقال خيار الشّرط للورثة، لأنّه يبطل بموت من له الخيار ويتمّ البيع، وذلك لثلاثة وجوه‏:‏

الأوّل‏:‏ أنّ خيار الشّرط صفة للعاقد، لأنّ الخيار مشيئته واختياره، فتبطل بموته، كسائر صفاته‏.‏

الثّاني‏:‏ أنّ الأجل في الثّمن لا يورث، فكذلك في الخيار‏.‏

الثّالث‏:‏ أنّ البائع رضي بخيار واحد معيّن، فكيف يثبت لأشخاص آخرين لم يشرط لهم، ولم ينصّ عليهم في العقد، وهم الورثة، والواجب عدم تعدّي الخيار من اشترط له، كما لا يتعدّى الأجل من اشترط له‏.‏

ب - خيار التّعيين‏:‏

39 - هو أن يقع البيع على واحد لا بعينه مثل‏:‏ أن يشتري شخص ثوبين على أن يكون له الخيار ثلاثة أيّام في تعيينه وأخذ أيّهما شاء، ولكن المشتري مات قبل أن يختار ويعيّن أحد الثّوبين‏.‏ فخيار التّعيين وإن ثبت حقًّا للوارث عند الجميع، لكنّهم اختلفوا في التّعليل‏:‏ فذهب مالك والشّافعيّ إلى أنّه انتقل للوارث عن طريق الميراث، لأنّه صفة للعقد كخيار الشّرط‏.‏ أمّا الحنفيّة فقالوا‏:‏ خيار التّعيين لا يورث، وإنّما ينتقل للورثة عن طريق الخلافة، لأنّه يثبت للوارث ابتداءً، لأنّ الوارث انتقل إليه الملك مختلطاً بملك الغير، وهو يحتاج إلى قبضه وتعيينه، فثبت له خيار التّعيين ابتداءً - عن طريق الخلافة - لإنهاء هذا الاختلاط‏.‏ ولم يثبت له بالميراث‏.‏

وهذا الخيار الّذي ثبت للورثة ابتداءً خلاف خيار التّعيين الّذي كان ثابتاً للمورث المتعاقد، حيث كان خيار التّعيين ثابتاً للمورث عن طريق العقد، أمّا خيار التّعيين الثّابت للورثة ابتداءً فهو لإنهاء اختلاط ملكهم بملك الغير، حتّى يتمكّن الورثة من تسلّم ملكهم والانتفاع به‏.‏

ج - خيار العيب‏:‏

40 - المشتري استحقّ المبيع سليماً من العيب، فكذلك الوارث يستحقّه سليماً، فينتقل إليه حقّ السّلامة ابتداءً عن طريق الخلافة‏.‏

وقد ذكر بعض الفقهاء من الحنفيّة أنّه ينتقل عن طريق الإرث‏.‏

د - خيار القبول‏:‏

41 - هو حقّ يثبت للطّرف الثّاني عند التّعاقد، وذلك بعد صدور الإيجاب من الطّرف الأوّل‏.‏ وقد اختلف الفقهاء في انتقاله إلى الورثة‏:‏ فذهب أكثر المالكيّة إلى أنّه حقّ يورث، لأنّه لا يجوز للموجب الرّجوع عن إيجابه، لأنّه ألزم نفسه به‏.‏

أمّا الحنفيّة فقالوا‏:‏ إنّ خيار القبول لا يورث، لأنّ الإيجاب غير ملزم للموجب، وله خيار الرّجوع، ويبطل الإيجاب بانفضاض مجلس العقد، وموت أحد المتعاقدين ينهي المجلس فينحلّ الإيجاب، فلا يكون بعده خيار القبول قائماً، وما دام خيار القبول أصبح غير موجود فلا ينتقل إلى الورثة لبطلانه تبعاً لبطلان الإيجاب بانفضاض المجلس بتفرّق الأرواح‏.‏

وانظر مصطلحات الخيار المتعدّدة‏.‏

هـ - المنافع‏:‏

42 - اختلف الفقهاء في ماليّتها، فذهب الحنفيّة إلى أنّها ليست مالاً، ولذلك لا تنتقل إلى الورثة عن طريق الميراث‏.‏ وذهب غيرهم إلى أنّ المنافع أموال، ولذلك قالوا‏:‏ إنّها تورث مثل بقيّة الأموال المملوكة للمورث‏.‏

و - القصاص في النّفس‏:‏

43 - هذا الحقّ ثابت لأولياء المقتول، ولكن الفقهاء اختلفوا في سبب ثبوته لهم‏:‏ فقال أبو حنيفة ومالك والشّافعيّ‏:‏ إنّ القصاص طريقة الخلافة دون الوراثة، ألا ترى أنّ القصاص يثبت بعد الموت، والميّت ليس صالحاً للمطالبة بالقصاص لفقده الحياة، وذلك بخلاف الدّين والهبة وما يتعلّق بالأموال، لأنّ الميّت من أهل الملك في الأموال، ويتجاوز في الأموال ما لا يتجاوز في غيرها، ولذلك إذا نصب شخص مصيدةً فوقع بها الصّيد بعد موته، فإنّ الميّت يملكه، ثمّ ينتقل إلى الورثة عن طريق الإرث‏.‏ أمّا القصاص فيثبت لأولياء المقتول ابتداءً لا عن طريق الميراث، ولذلك لا يثبت القصاص لأحد الزّوجين لأنّ الخلافة بالنّسب فقط، دون السّبب وهو الزّوجيّة، لانقطاع الزّوجيّة بالموت‏.‏

وقالوا أيضاً‏:‏ لم يثبت للمجنيّ عليه قبل موته قصاص النّفس، وإنّما يثبت القصاص للوارث ابتداءً، لأنّ استحقاق القصاص فرع زهوق الرّوح، ومرتّب على خروج الرّوح، فلم يكن قصاص النّفس ثابتًا للمقتول قبل موته، حتّى يكون القصاص ممّا ينتقل للوارث، لأنّ حقّ القصاص لا يثبت إلاّ بعد الموت، فلا يقع إلاّ للوارث‏.‏

تقسيم الحقوق باعتبار الماليّة وعدمها

44 - تنقسم الحقوق باعتبار الماليّة والتّعلّق بالأموال وعدم الماليّة إلى ما يأتي‏:‏

أ - حقّ ماليّ، يتعلّق بالأموال، ويستعاض عنه بمال، مثل‏:‏ الأعيان الماليّة حيث يمكن بيعها والاستعاضة عنها بمال‏.‏

ب - حقّ ماليّ، ليس في مقابلة مال، مثل‏:‏ المهر والنّفقة، حيث يتعلّق المهر بالزّواج والدّخول، وكلاهما ليس مالًا، وكذلك النّفقة تستحقّها الزّوجة مقابل احتباسها لحقّ الزّوج‏.‏

ج - حقّ غير ماليّ، يتعلّق بالأموال، ولكن لا يجوز الاستعاضة عنه بمال، مثل‏:‏ الشّفعة، حيث إنّ حقّ الشّفعة قبل بيع الشّريك حقّ مجرّد، وبعد البيع حقّ ثابت، وهو أيضًا حقّ مجرّد، وهو حقّ ضعيف لا يصحّ الاستعاضة عنه بمال‏.‏ إلاّ أنّ الشّفعة حقّ يتعلّق بالعقار، وهو مال بالإجماع‏.‏

د - حقّ غير ماليّ، لا يتعلّق بالأموال، ولكن يجوز الاستعاضة عنه بمال، مثل‏:‏ القصاص، لأنّه حقّ غير ماليّ، ولا يتعلّق بالأموال، لأنّه عقوبة القتل العمد، وهذا ليس مالًا، ولكن يجوز الاستعاضة عن القصاص بمال، وذلك عند الصّلح على مال‏.‏

هـ - حقّ غير ماليّ، ولا يتعلّق بالأموال، ولا يجوز الاستعاضة عنه بمال، ولكن قد يترتّب عليه حقوق ماليّة، مثل‏:‏ الأبوّة، والأمومة، والبنوّة‏.‏

ز - حقّ مختلف في ماليّته، مثل‏:‏ المنافع‏.‏

حيث ذهب الجمهور إلى أنّ المنافع مال، وذهب الحنفيّة إلى أنّها ليست مالاً، وذكر الخطيب الشّربينيّ أنّ المنافع يطلق عليها المال مجازاً‏.‏

الحقّ الواجب ديانةً، والحقّ الواجب قضاءً

45 - الحقّ الواجب ديانةً‏:‏ هو ما كان واجب الأداء في الذّمّة بحكم شرعيّ أو بالالتزام، وليس هناك دليل يثبته عند التّقاضي، مثل‏:‏ الطّلاق بغير شهود أو بطريق غير رسميّ، وقد يكون حقّاً ليس له مطالب من جهة العباد، ولا يدخل تحت ولاية القضاء، كالحجّ والوفاء بالنّذر‏.‏ والحقّ الواجب قضاءً‏:‏ هو ما كان واجب الأداء وأمكن إثباته بالدّليل، مثل‏:‏ الطّلاق أمام الشّهود أو بوثيقة رسميّة، فإن راجعها الزّوج بطريق غير رسميّ أو لا دليل عليه فحكم الطّلاق ما زال قائماً قضاءً فقط لا ديانةً‏.‏

والحقّ الواجب ديانةً وقضاءً‏:‏ هو ما كان واجب الأداء في الذّمّة بحكم شرعيّ أو التزام، ويمكن إثباته بالدّليل، مثل‏:‏ الطّلاق بوثيقة رسميّة أو أمام الشّهود، ولم يراجعها الزّوج فهي مطلّقة ديانةً وقضاءً‏.‏

حقّ التّملّك والحقّ المباح

46 - حقّ التّملّك‏:‏ هو مجرّد الإمكان والصّلاحيّة للملك شرعاً‏.‏

والمباح‏:‏ هو ما خيّر فيه الشّخص بين الفعل والتّرك، وكان فعله وتركه سواءً شرعاً‏.‏ فالحقّ المباح وحقّ التّملّك كلاهما حقّ ليس له محلّ معيّن - ولو في الجملة - يتعلّق به، وذلك لعدم وجود سبب من أسباب الملك بمحلّ معيّن يوجبه ويثبته فيه‏.‏ وفي الوقت نفسه هو صالح لانتقاله وتركه إلى حقّ آخر أقوى منه عند وجود سبب من أسباب الملك‏.‏

وحقّ التّملّك والحقّ المباح كلاهما من الحقوق المجرّدة الضّعيفة، الّتي لا تترقّى ولا تنتقل إلى غيرها من الحقوق بالقول الصّادر من صاحبه تعبيراً عن إرادته وحده‏.‏

والحقّ المباح يثبت بالأصل، لأنّ الأصل في الأشياء الإباحة عند الجمهور ويظهر ذلك في المسكوت عنه، واستدلّ بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما أحلّ اللّه في كتابه فهو حلال، وما حرّمه فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من اللّه عافيته، فإنّ اللّه لم يكن لينسى شيئاً»‏.‏ فإذا كان نقل الملك عن طريق التّراضي كما في العقود، فمن له حقّ التّملّك للعقار أو المنقول المملوك للغير - قبل التّعاقد - فإنّ حقّه حقّ تملّك فقط، وهو حقّ مباح، وهذا الحقّ لا يفيد ملكاً مطلقاً، ولا ملكاً في الجملة‏.‏ ولذلك لا يتعارض حقّ التّملّك مع حقّ المالك، ويستمرّ الحقّ المباح في التّملّك إلى أن يصدر من المالك للعقار أو المنقول إيجاب بالبيع لصاحب حقّ التّملّك‏.‏ فإذا أوجب صاحب المال على نفسه بيع المنقول لصاحب حقّ التّملّك، بأن صدر منه إيجاب بالبيع، ترقّى هذا الحقّ - حقّ التّملّك - إلى مرحلة وسط بين حقّ التّملّك والملك، وهو حقّ واحد يسمّى‏:‏ الحقّ الثّابت أو الحقّ الواجب‏.‏

أمّا إذا كان الوصول إلى الملك عن طريق آخر غير التّراضي، بأن كان عن طريق الإجبار، مثل‏:‏ الشّفعة والغنيمة، فحقّ التّملّك موجود أيضاً إذا وجد سبب استحقاقه، وقد أكّد الفقهاء على أنّ حقّ التّملّك أو المباح لا يعتبر ملكاً مطلقاً‏.‏ هذا كلّه في الأموال المملوكة للغير‏:‏

47 - أمّا غير المملوك للغير، مثل‏:‏ الطّير في الهواء، والسّمك في مياه الأنهار والبحار، والنّبات والأشجار في الصّحاري والغابات، وكذلك الحيوانات البرّيّة، فإنّه يجوز لكلّ شخص أن يسعى لتملّكها، وذلك بالوسائل المشروعة، لأنّ الجميع لهم حقّ تملّك هذه الأشياء وأمثالها، وكلّ واحد صالح لأن يكون مالكاً لها، فحقّ تملّكها مستمرّ إلى أن يوجد أحد الأشخاص سبباً من أسباب الملك‏.‏

الحقّ الثّابت أو الحقّ الواجب

48 - الحقّ الثّابت - ويسمّى الحقّ الواجب عند بعض الفقهاء -‏:‏ هو حقّ الشّخص في أن يتملّك شيئاً محدّداً - ولو في الجملة - بإرادته وحده، بعد وجود سبب من أسباب الملك، وقبل ثبوت الملك‏.‏ وهذا الحقّ لم يصل إلى درجة حقّ الملك، لأنّه أدنى منه، ولا يفيد ملكًا كما أنّه أعلى درجةً من المباح وحقّ التّملّك، حيث إنّ الحقّ الثّابت يعطي حقوقاً أكثر من حقّ التّملّك، وله آثار أقوى، لأنّ صاحب حقّ التّملّك إذا تحقّق له سبب من أسباب الملك كالإيجاب في البيع والشّراء، ترقّى حقّه إلى حقّ ثابت، ولكنّه مجرّد عن الملك‏.‏

ويمكن لصاحب الحقّ الثّابت - بإرادته وحده - أن يترقّى بهذا الحقّ الثّابت إلى حقّ الملك، لأنّه أصبح بالخيار بين قبول الإيجاب في مجلس العقد فيصبح مالكاً، أو رفض الإيجاب، وهذا الأمر لا يتوفّر لصاحب حقّ التّملّك، وهو أهمّ فرق بين هذين الحقّين‏.‏

وهذا في التّملّك الاختياريّ بإرادة المالك وإيجابه، فالحقّ الوسط هو الحقّ الثّابت فقط، ويسمّى الحقّ الواجب‏.‏

أمّا في التّملّك الجبريّ بغير إرادة المالك، مثل‏:‏ الغنيمة والشّفعة‏.‏

قال ابن عابدين في شأن الغنيمة‏:‏ والحاصل كما في الفتح عن المبسوط‏:‏ أنّ الحقّ يثبت عندنا بنفس الأخذ، ويتأكّد بالإحراز، ويملك بالقسمة، وما دام الحقّ ضعيفاً لا تجوز القسمة‏.‏ قلت‏:‏ وهذا كلّه إذا لم يظهر عسكرنا على البلد، فلو ظهروا عليها، وصارت بلد إسلام، وصارت الغنيمة محرزةً بدارنا، ويتأكّد الحقّ، فتصحّ القسمة‏.‏

ويستوي الحقّ المباح _ أي حقّ التّملّك _ والحقّ الثّابت فيما يلي‏:‏

أ - أنّ كلّاً منهما حقّ مجرّد عن الملك، ومعنىً مجرّد عن الملك، أنّها ليست ملكاً، وسمّيت في البدائع الحقوق المفردة، وهي لا تملك ولا تضمن بالإتلاف، ولا يستعاض عنها بمال، لأنّه مجرّد حقّ فقط‏.‏

ب - أنّ كلّاً منهما حقّ ضعيف، ولذلك لا تجوز قسمته أو الصّلح عنه‏.‏

ج - أنّ كلّاً منهما لا يباع، ولا يورث عند الحنفيّة‏.‏

هـ - أنّ كلّاً منهما ليس حقّ ملك، ولا نوع ملك كالحقّ المؤكّد‏.‏

ز- أنّ كلّاً منهما لا يضمن عند الإتلاف‏.‏

ويفترق الحقّ المباح - حقّ التّملّك - عن الحقّ الثّابت فيم يأتي‏:‏

أ - أنّ الحقّ الثّابت تعلّق بشيء معيّن ولو في الجملة‏.‏

أمّا الحقّ المباح فلم يتعلّق بشيء معيّن‏.‏

ب - أنّ الحقّ الثّابت تحقّق له شيء من أسباب الملك‏.‏

أمّا الحقّ المباح فلم يتحقّق له شيء من أسباب الملك‏.‏

ج - أنّ الحقّ الثّابت في مقدور صاحبه وسلطته أن يرتقي بهذا الحقّ ويجعله حقّاً مؤكّداً، أو حقّ ملك، وذلك بإرادته وقبوله وحده، أمّا الحقّ المباح فصاحبه لا يقدر أن يترقّى به ويحوّله إلى حقّ مؤكّد، أو حقّ ملك، بقبوله وعبارته وحده‏.‏

د - أنّ الحقّ الثّابت ينتقل إلى الورثة عند المالكيّة، كما في خيار القبول، أمّا الحقّ المباح فلا ينتقل إلى الورثة‏.‏

الحقّ المؤكّد

49 - الحقّ المؤكّد حقّ استقرّ في عين معيّنة لم تملك بعد، وإن كانت لصاحبه نوع ملك في الجملة، وله حقّ المطالبة بالقسمة‏.‏

ويسمّى‏:‏ الحقّ المستمرّ، لأنّ من عليه الحقّ لا يقدر على إبطال الحقّ المؤكّد من جانبه، ويجب عليه التّسليم بالحقّ المؤكّد لصاحبه، وإذا امتنع أجبره القاضي على ذلك‏.‏

مثاله في الغنيمة‏:‏ الحقّ المؤكّد فيها يكون بعد إحراز المسلمين للغنيمة في دار الإسلام، لأنّ الحقّ فيها قد تأكّد واستقرّ بعد هذا الإحراز، لأنّ الغنيمة في أرض الحرب والمعارك قبل الإحراز كانت مجرّد حقّ لم يتأكّد بعد، حيث كان هذا الحقّ مهدّدًا باسترداد الأعداء لأموالهم، وبعد الإحراز للغنائم في بلاد الإسلام زال الخطر، وتأكّد الحقّ، ولم يبق مجرّد حقّ، أو حقًّا مجرّداً‏.‏ قال في الدّرّ المنتقى‏:‏ والّذي قرّره في المنح كغيره‏:‏ أنّه لا ملك بعد الإحراز بدارنا أيضاً إلاّ بالقسمة، فلا يثبت بالإحراز ملك لأحد، بل يتأكّد الحقّ، ولهذا لو أعتق واحد من الغانمين عبداً بعد الإحراز لا يعتق، ولو كان له ملك ولو بشركة لعتق‏.‏

نعم لو قسمت الغنيمة على الرّايات فوقع عبد بين أهل راية صحّ عتق أحدهم للشّركة الخاصّة، حيث كانوا قليلاً كمائة فأقلّ، وقيل‏:‏ أربعين‏.‏

ولا يجوز بيع أحد الغانمين شيئاً من الغنيمة قبل القسمة، سواء أكان في دار الحرب أم بعد الإحراز في دارنا، لأنّها لا تملك قبل القسمة كما علمت، قال في الفتح‏:‏ وهذا ظاهر في بيع الغزاة، وأمّا بيع الإمام لها فذكر الطّحاويّ‏:‏ أنّه يصحّ، لأنّه مجتهد فيه، يعني أنّه لا بدّ أن يكون الإمام رأى المصلحة في ذلك‏.‏

حكم الحقّ المؤكّد

50 - أ - يضمن عند الإتلاف، قال ابن عابدين‏:‏ إذا فوّت حقّاً مؤكّداً فإنّه يلحق بتفويت حقيقة الملك في حقّ الضّمان كحقّ المرتهن، ولذا لا يضمن بإتلاف شيء من الغنيمة قبل الإحراز، لأنّ الفائت مجرّد الحقّ، وأنّه غير مضمون، وبعد الإحراز بدار الإسلام - ولو قبل القسمة - يضمن، لتفويت حقيقة الملك، ويجب عليه القيمة في ‏"‏ إتلافه شيئاً ‏"‏ من الغنيمة بعد الإحراز، وأراد بقوله‏:‏ لتفويت حقيقة الملك الحقّ المؤكّد، إذ لا تحصل حقيقة الملك إلاّ بعد القسمة كما مرّ‏.‏

ب - لا يعتبر داخلًا في ملك صاحب الحقّ وليس له بيعه، قال في الجوهرة‏:‏ ولا يجوز بيع الغنائم قبل القسمة، لأنّه لا ملك لأحد فيها قبل ذلك‏.‏

ج - يورث الحقّ المؤكّد إذا مات صاحبه بعد التّأكّد وقبل الملك، مثل‏:‏ التّحجير‏.‏

والغنيمة إذا أحرزت في دار الإسلام قبل القسمة، قال ابن عابدين‏:‏ بعد الإحراز بدارنا يورث نصيب الغازي إذا مات في دارنا قبل القسمة، للتّأكّد لا الملك، لأنّه لا ملك قبل القسمة، وهذا لأنّ الحقّ المتأكّد يورث، كحقّ الرّهن والرّدّ بالعيب، بخلاف الحقّ الضّعيف كالشّفعة وخيار الشّرط‏.‏

د - يعتبر الحقّ المؤكّد مملوكًا لصاحبه في الجملة وإن لم يدخل في ملكه بعد، إلاّ أنّه انعقد له سبب يرتّب له حقّاً في الجملة، وذلك لما يأتي‏.‏

1 - أنّ هذا الحقّ قد استقرّ وتحدّد وتعيّن المستحقّون له، ولم يبق إلاّ نقل الملكيّة، ويتمّ ذلك في الغنيمة المحرزة بقسمتها‏.‏

2 - أنّه يضمن بالإتلاف، لتعلّق حقّ الغانمين به، وتحقّق خروجه من ملك الأعداء، وانتهاء الإباحة الّتي لحقت بالغنيمة وقت المعركة إلى قبيل الإحراز‏.‏

قال ابن عابدين‏:‏ وبعد الخروج من دار الحرب لا ينتفع بشيء ممّا يجوز للغانمين الانتفاع به في دار الحرب، لزوال المبيح، ولأنّ حقّهم قد تأكّد حتّى يورث نصيبهم‏.‏

3 - أنّ صاحب الحقّ المؤكّد في الغنيمة له الحقّ في المطالبة بقسمتها وتمليكها، حتّى يتحقّق دخول نصيبه من الغنيمة في ملكه ولو لم يكن صاحب الحقّ المؤكّد صاحب اختصاص أو له نوع ملك لمّا كان له الحقّ في المطالبة بالقسمة والتّمليك‏.‏

قال القرافيّ‏:‏ إذا حيزت الغنيمة فقد انعقد للمجاهدين سبب المطالبة بالقسمة والتّمليك، فهل يعدّون مالكين لذلك أم لا‏؟‏ قولان‏:‏ فقيل‏:‏ يملكون بالحوز والأخذ، وهو مذهب الشّافعيّ، وقيل‏:‏ لا يملكون إلاّ بالقسمة، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة – وهو الصّحيح عند الشّافعيّة - كما قاله الخطيب الشّربينيّ‏.‏

ثمّ قال القرافيّ‏:‏ إذا قلنا انعقد له سبب يقتضي المطالبة بالتّمليك، فهو مناسب لأن يعدّ مالكاً من حيث الجملة، تنزيلاً لسبب السّبب منزلة السّبب، وإقامةً للسّبب البعيد مقام السّبب القريب، فهذا يمكن أن يتخيّل وقوعه قاعدةً في الشّريعة، ويجري فيها الخلاف في بعض فروعها لا في كلّها‏.‏

4 - أنّ الحقّ المؤكّد إذا مات صاحبه انتقل إلى ورثته كما في الغنيمة إذا حيزت بإجماع الفقهاء، ولو لم يكن لصاحبه نوع ملك لما انتقل إلى الورثة، كالحقّ الثّابت حيث إنّه لمّا كان خالياً عن الملك أصلاً، وليس فيه نوع من أنواع الملك، ولم ينتقل إلى الورثة عند الحنفيّة، خلافاً للمالكيّة، فدلّ ذلك على أنّ الحقّ المؤكّد فيه نوع ملك في الجملة، ولذلك انتقل إلى الورثة‏.‏

51 - ويفترق الحقّ المؤكّد عن الحقّ الثّابت - وكلاهما حقّ وسط بين التّملّك والملك - فيما يأتي‏:‏

1 - أنّ الحقّ المؤكّد يضمن عند الإتلاف‏.‏ أمّا الحقّ الثّابت فلا يضمن عند الإتلاف‏.‏

2 - أنّ الحقّ المؤكّد يورث بالإجماع أمّا الحقّ الثّابت فلا يورث عند الحنفيّة خلافاً للمالكيّة‏.‏

3 - أنّ الحقّ المؤكّد يعتبر مملوكًا في الجملة، فلا يجوز الانتفاع به على سبيل الإباحة‏.‏ أمّا الحقّ الثّابت فلا يعتبر مملوكاً‏.‏

4 - أنّ الحقّ المؤكّد أقرب ما يكون إلى حقّ الملك، لوجود الشّبه في بعض الأمور‏.‏

أمّا الحقّ الثّابت فأبعد ما يكون عن حقّ الملك، لعدم وجود الشّبه في أكثر الأمور، إن لم يكن في كلّها‏.‏

5- أنّ الحقّ المؤكّد أبعد ما يكون عن حقّ التّملّك‏.‏

أمّا الحقّ الثّابت فهو قريب من حقّ التّملّك، لوجود الشّبه في بعض الأمور‏.‏

ويختلف الحقّ المؤكّد عن الملك فيما يأتي‏:‏ أنّ الحقّ المؤكّد لا يجوز بيعه والتّصرّف فيه من صاحب الحقّ المؤكّد‏.‏ أمّا حقّ الملك، فإنّ لصاحبه حقّ المبيع والتّصرّف فيه والانتفاع، وغير ذلك من حقوق الملك‏.‏

استيفاء الحقّ

52 - تنقسم الحقوق من حيث استيفاؤها إلى ثلاثة أقسام‏:‏

الأوّل‏:‏ ما لا بدّ فيه من الرّفع إلى القضاء، باتّفاق الفقهاء، كتحصيل العقوبات وما يخاف من استيفائه الفتنة، كالحقوق المتعلّقة بالنّكاح واللّعان والطّلاق بالإعسار والإضرار وذلك لخطرها وكذلك ما كان من الحقوق مختلفًا في أصل ثبوته‏.‏

الثّاني‏:‏ ما لا يحتاج إلى القضاء باتّفاق الفقهاء، لتحصيل الأعيان المستحقّة، وتحصيل نفقة الزّوجة والأولاد‏.‏

الثّالث‏:‏ ما اختلف في جواز تحصيله من غير قضاء، كاستيفاء الدّيون‏.‏

وانظر مصطلح ‏(‏استيفاء‏)‏‏.‏